للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

من طرق الرواية. إنما كان لكل واحد منهم رأيه ونظره ومبلغ علمه وإحاطة روايته. فإن اضطر أحدهم إلى ما يعجله عن الأناة، وإجالة الرأي في اختيار اللفظ وتعريبه، ودُفع إلى الكتابة والتأليف من هذه المضايق، لم يبال أن يتناول اللفظ كما هو في لسان أهله ولغة واضعه، ما دام لا يرسله إلا في أسلوب محكم من اللغة، ولا يحيطه إلا بالتركيب العربي المبين، وهم كانوا أبصر بما قررناه من أن اللغة بالأوضاع والتراكيب، لا بالمفردات، بالغة ما بلغت. وأن الشأن فيما ينتظم الكلمة الأعجمية انتظاماً عربياً لا في الكلمة نفسها.

وهذا الجاحظ عالم كتّاب هذه الأمة، وفرد بلغائها، تتصفح كتبه فتعثر بالشيء من أسماء الأدوات ومصطلحات الفنون. وبعض ذلك لا سبيل إلى فهمه ومعرفة مدلوله إلا بالرجوع إليه في الفارسية والهندية والرومانية ونحوها وإلا أن اتفق للباحث أن يعثر على بيانه وتفسيره في بعض الموسوعات العربية أو كتب الفنون. وقد كان دأب هذا البليغ أن لا يتوقف عند اللفظة المحدثة يقلبها ويشققها، ولا يتردد عند الكلمة الدخيلة ينظر فيها ويحققها. وهو قد نص على ذلك في موضع من كتابه الحيوان، فقال: بعد أن ساق ألفاظاً من مصطلحات الزنادقة كالساتر والغامر والبطلان وغيرها، وأنكر غرابة الدلالة فيها، وأنها مهجورة عند أهل دعوته وملته، وعند العوام والجمهور إن رأيي في هذا الضرب من هذا اللفظ أن أكون ما دمت في المعاني التي هي عبارتها والمادة فيها - أن ألفظ بالشيء العتيد الموجود، وأدع التكلف لما عسى أن لا يسلس ولا يسهل إلا بعد الرياضة الطويلة، وأرى أن ألفظ بألفاظ المتكلمين ما دمت خائضاً في صناعة الكلام مع خاص أهل الكلام. فإن ذلك أفهم عندي وأخف لمؤنهم على. ولكل صناعة ألفاظ قد جعلت لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت بينها وبين معاني تلك الصناعة مشاكلات. وقبيح بالمتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلمين في خطبة أو رسالة، أو في مخاطبة العوام والجار، أو في مخاطبة أهله وعبده وأمته، أو في حديثه إذا حدث أو خبره إذا خبر. وكذلك من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب وألفاظ العوام وهو في صناعة الكلام داخل. ولكل مقام مقال ولكل صناعة شكل.

على أننا لا نستقصي القول في هذه الجهة، فإن موقع النية أن التكلم في تمصير اللغة، وإنما أفضينا إلى الكلام من هذه الناحية إذ كانت هي سبيلنا إليه. فإن القائلين بهذا الرأي،