للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[نوابغ العصر]

١

أحمد بك شوقي

الجمال أمر يدرك بالذوق والبصيرة، وسرّ يفهم بالوجدان والسريرة. وإنما العين باب إلى القلب، والحس مسلك إلى النفس. ولما كان الجمهور في البلاد المتأخرة غير ذوي بصائر، أو ذوي بصائر رمداء يحسن لديها القبيح. ويقبح الحسن. وذوي أذواق فاسدة تزدرد الخبيث وتلفظ الطيب. أصبح حكمهم على الأشياء متهماً ظنيناً لا ينبغي أن يعتد به أو يلتفت إليه. والجمهور في الممالك المنحطة كالطفل مقلد سريع التقليد، وكالصدي يقول ما لا يفهم، أو كالريح لا تدري أين تذهب. وقد رأيت المكابرين من أهل هذه الديار قد تمسكوا بعرى حجة واهية تخذوها مخرجاً لهم من مأزق الخصام. إذا حاول أحد إقناعهم بالدليل القاطع قالوا لكل إنسان مشرب أو الأذواق تختلف بلى قد صدقتم معشر لمكابرين الأذواق تختلف حسناً وقبحاً، وصحة واختلالاً، وسلامة ومرضاً. وطالما رأينا الرجل الذي ليس بالأعمى يتعشق المرأة القبيحة الشوهاء، والرجل الذي ليس بالأصم يطرب للغناء الفاسد الغث. ورأينا كذلك من تضحكه الكلمة السمجة الباردة، ومن تسره الفعلة السيئة المنكرة. فهل يقوم لهم حجة قولهم لكل إنسان مشرب والأذواق تختلف اللهم لا يكون ذلك ما دام القبيح قبيحاً، والمرذول مرذولاً، والغث غثاً. وأني لأطلب إلى أمثال هؤلاء أن ينسلخوا منا بأذواقهم ومشاربهم، وبكل ما قد اصطفوه واختاروه من محتويات هذا العالم طعاماً كان أو شراباً أو شعراً أو نساءً. وأقسم أن الدنيا ستكون بعد زوالهم أكثر وأغنى، وأملح وأسنى.

في خراب البلدان، تكثر البوم والغربان. وفي خراب الأذهان تكثر كذلك البوم والغربان من قالة الهذر والهذيان. فيا ويل عشاق الغناء يومئذ ويابؤسهم، يدورون ويطوفون، وينصبون الآذان، ويرهفون الحواس، علهم يسمعون صوتاً يلذهم، أو نغمة تطربهم. ولكن ماذا تنتظر من البوم وما ترجو لدى الغربان!

في هذا الخراب المؤيس إذا طاب السحر، ومرض النسيم، قد يسمع من حين إلى حين بلبل غريد، حلو الأرانين، عذب الأهازيج، يستوقف عاشق الغناء، ذلك التائه الحيران، والهائم الولهان. فيحي بصوته الشجي ملحود الرجاء، ويهدي بلحنه الشهي منشود الرخاء. يسترق