للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المصور الكبير تيتان عرف لأول وهلة من حقيقة أخلاق شارل الخامس ما تفرقت فيه ظنون من جالسوه وحادثوه وجهاً لوجه وفماً لفم. ولخير لي من أن يرثيني الشاعر بعد وفاتي بالكلام المنمق ويكتب سيرتي المؤرخ أن أخلف صورة لي من ريشة مصور صناع. فإن وجه هذه الصورة لينطق للناس بما جال في خاطري وحك في وجداني فأما ما جرى به لساني وفعلته يداي فهذا ما لا قيمة له بجانب الفكر والإحساس وصورة الشاعر دون أدل عندي على فضله من جميع ما نظمه. ولو أن صورة يولوس قيصر أشبهت صورة الدوق أوف ولنجتون لما رفعته في عيني أماديح المؤرخين والشراح. وقد قال صديقي فوسيت أنه لو سمع العالم الكبير اسحق نيوتن يلثغ في نطقه لما حفل به ولا رآه ذلك العظيم النابغة. وعلى كل حال فلست حاملاً نفسي على أن تشهد بالعظمة والبطولة لمن حمل وجهه صورة الحمق. وبدت في أساريره آية الغباء والخرق. وقد أكون في ذلك مخطئاً ولكني لا أبالي.

وبوادر الوجه (أعني أول ما تحدثه في نفسك هيئة الرجل وسحنته) هي في الغالب أصدق الشواهد. فإن سيما الوجه هي نتيجة السنين المتوالية وقد طبعتها على صحيفته أيدي الحوادث والصروف بل يد الطبيعة والفطرة فيتعذر على المرء أن يمحوها من وجهه. وقد يرى أحدنا الرجل لأول مرة فيشعر له بكراهة لا يعلم لها سبباً ثم تبدو من الرجل أفعاله جميلة وأحوال حسنة فتنسي في أثنائها تلك الكراهية حتى تكشف ظواهر الرجل عن باطنه فإذا هو قبيح خبيث وحينئذ نعلم أن الكراهة التي وجدناها له أول ما رأيناه كانت بحق وكان أهلها وجديرا بها. ومن الناس مننحس لهم كراهة وإن كنا قد عاشرناهم طويلاً ثم لا نذكر لهم عيباً. فنقول عن هؤلاء أن وجوههم أعداء لهم. وهذا خطأ لو دقتنا النظر. وما كان الوجه قط ليكون عدواً لصاحبه وإلا كان ذلك تناقضاً في مذهب الطبيعة. والطبيعة فوق كل هفوة وخطيئة. وإنما هناك سبب حقيقي لشعورنا نحو هؤلاء بنوع من الكراهة وهو إما جفاء في طباعهم أو أثرة (أنانية) أو قلة إخلاص لا نراها في فعلة أو كلمة معينة من أفعالهم أو أقوالهم ولكنا نراها في الرجل كله وفي شخصه أجمع. ومحاولة الرجل إخفاء هذه النقيصة بكل ما يمكنه هو أحد الأسباب التي تمنعنا أن نراها في شيء معين من أفعاله أو أقواله. وهذه نعمة من الله أن جعل لنا على أخلاق الناس فراسة تنظر بظهر الغيب إلى خبيات الصدور فتراها قبل أن تفشيها أعمال الرجل وأقواله وقد كنت أرى في بعض