للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

أبديّ ما أن يزال يهفو إلى الأبدية، ويطمح نحو العالم الروحاني. أنه لا يبعد أن تصبح أشكال الديانات بعد مضي بضعة قرون وقد نالها من التغير ما لا نكاد نعرفها معه. ولكن مهما يطرأ على أشكال الديانات من التغير فإن حاجة النفس إلى الاعتماد على القدرة الألهية وتلمسها الأتصال بذلك السر الخفي الأبدي - هذا أمر ثابت دائم لا يزول ولا يتغير. وما كان في قدرة مجهر الكيماوي أو مرقب الفلكي أو قادوم الجيولوجي أن ينزع من النفس حاجتها إلى تلك الصخرة الراسية تستقر عليها_إلى تلك النجمة التي لا تغرب_إلى ذلك الموجود الواهب الحياة لأدنى ذرات هذا الكون الواسع.

والناس على الإطلاق لا غنى بهم عن الدين، من لم يحتج إليه صغيراً احتاجه كبيراً، ومن لم يعتقده مختاراً اعتقده مقهوراً. فإنك لتبصر الرجل الضعيف العقيدة يسترسل في جحوده ما شاء فيرميه الله بالمصيبة فإذا هو مؤمن. وأني لمن أدركوا سر الحياة الباطنية بطول مكابدة أهوال الحياة الظاهرة. ولقد كنت قبل أن يبتليني الله أكثر اهتماماً بلون قطيفتي ومقدار ملائمتها للوني مني بالدين وكافة شؤونه فأراد الله أن أفهم معنى قولهم المؤمن مصاب.

ولما تأدبت في مدارس الشقاء، وسبكت بنار المحنة، علمت أنه لا ذخر أنفس من الأيمان، ولا حرز أمنع من اليقين. وذلك أني وجدتني غنية بذلك إذ أنفضت من متاع الدنيا. وكان إيماني كالعود الخوار فإذا هو كالنبعة الصلبة ألفيتها نعم المتكأ في الضراء. والمعتمد في النكراء. وكان يقيني واهناً ضعيفاً كخامد الجمر، فإذا هو كالضرام المتأجج جلى غيهب الشكوك وحندس الشبهات، وأوضح منهج الرشد فعلوته مسددة الخطوات مأمونة العثرات. ولست في ذلك إلا واحدة من آلاف آلاف كلهم قد لقي من هذه الأحوال ما لقيت. كلهم غمس في حياض البلاء ورسب في أعماق الكرب فعرف حاجة النفس إلى الإيمان والتوكل - إلى بث شكاياتها ونفث أشجانها ورفع دعواتها إلى أذن سميع مجيب يفهم حاجاتها ويرثى لبلواها.

هذا حق لا يضر به ولا يؤثر فيه تداول الألسن إياه بالمناقشات والمباحثات وهل يعرف الناس شيئاً أثبت على الجدال وأرسى على المحاورة ولا أبقى على المعارضة وأدوم على المحاربة من الحق؟ وما أحسن ما نطق به الأستاذ في هذه الصدد إذ قال أحد الجلساء ألا