للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شعرا يضر الطب والشعر معا. وكذلك نظم النحو فهو لا يكسب ملكة اللغة والإنشاء بل بكسب صناعة لفظية لا فائدة للعلم منها. قل لي بربك ما الفائدة من نظم كتاب إقليدس؟ إن القضايا الواضحة يجب التعبير عنها بألفاظ واضحة. غير أن الميل إلى المجاز واستعمال الكنايات والحرص على موسيقى الألفاظ فتن العلماء كما فتن الشعراء حتى نال بعضهم أن الفن والعلم إخوان لا يفترقان وان للحقيقة شعرا كما للشعر حقيقة. لا جرم إن في الكشف عن الحقيقة جمالا لا يقل روعة عن جمال الفن نفسه إلا انك إذا حاولت ستر الحقيقة بحجاب من الألفاظ شوهت الحقيقة. فالحقيقة يجب أن تبدو بثوبها الطبيعي لا بثوبها الصناعي، وإذا ظهرت بثوب غير ثوبها فقدت جمالها.

ولعل السبب في هزء العلماء بالأدباء إنهم لا يتكلمون بلغة واحدة ولا يدل اللفظ عندهم على معنى واحد. فالعالم إذا أراد أن يبحث عن تأثير الريح في أمواج لا يقول: نسج الريح على الماء زرد بل يسمي الأشياء بأسمائها. ولو استمر العلماء على البحث في خواص المادة الخفية كما كانوا يفعلون في دور ما بعد الطبيعة لما تقدم العلم. إلا أنهم اقتصروا اليوم على البحث في الأعراض الظاهرة. فلفظ الرمان يدل عندهم على الرمان فقط وهم يبحثون عن لونه وتركيبه أما الأدباء

فلا يزالون يبحثون عن معنى (الرمان) وصوره، ولعلهم إذا أكلوا الرمان تغدوا

بحقيقة الرمان كما يتغذى اليوم بعضهم بسحر الفيتامين.

ولعل السبب في عشقنا للألفاظ فساد طرق التربية في مدارسنا. فتربيتنا تربية

لفظية. تملأ عقل التلميذ بالألفاظ دون المعنى، وتشحن ذاكرته بالكلام دون أن تحرك عقله بالأشياء والتجارب. فيحفظ الطفل الألفاظ ولا يرى الأشياء بل يبتعد عن التجربة ثم إذا خرج من المدرسة حافظ على احترام الألفاظ وعبادة الكلام فيكلمك وأنت تظنه يفكر وهو يردد أفكار غيره ويرن كما ترن الآلة، لأن الألفاظ لا تغذي العقول ولا تفتق الأذهان بل تخلق أشخاصا مقلدين ليس لهم قوة على الإبداع ولا ميل إلى التجديد.

جميل صليبا

<<  <  ج: ص:  >  >>