للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الغرفة المغلقة]

للأستاذ محمد روحي فيصل

كانت غرفتها تجاور غرفتي في البنسيون، ولكني لا أذكر أني وجدتها مفتحة الأبواب أو دخلت إليها في نهار أو ليل على طول ما لبثنا معا متجاورين متصلين، فقد امتد التعارف بيننا - وأكاد أقول: صداقتنا - سنتين وبعض الشهور.

كم مرة رأيتها تفتح باب غرفتي بنفسها، وتطل علي بعينيها الضاحكتين وثوبها الأزرق، فتلقي التحية أو تسأل عن الحال أو تصلح من شؤون سريري أو تنسق كتب طاولتي، وقد تذكرني بأن الشهر الجديد قد هل، ولابد لها عما قريب أن تدفع ما عليها إلى صاحب البنسيون، فأرحب بها وأدخل مع في حد

[الغرفة المغلقة]

للأستاذ محمد روحي فيصل

كانت غرفتها تجاور غرفتي في البنسيون، ولكني لا أذكر أني وجدتها مفتحة الأبواب أو دخلت إليها في نهار أو ليل على طول ما لبثنا معا متجاورين متصلين، فقد امتد التعارف بيننا - وأكاد أقول: صداقتنا - سنتين وبعض الشهور.

كم مرة رأيتها تفتح باب غرفتي بنفسها، وتطل علي بعينيها الضاحكتين وثوبها الأزرق، فتلقي التحية أو تسأل عن الحال أو تصلح من شؤون سريري أو تنسق كتب طاولتي، وقد تذكرني بأن الشهر الجديد قد هل، ولابد لها عما قريب أن تدفع ما عليها إلى صاحب البنسيون، فأرحب بها وأدخل مع في حديث قصير أو طويل، سخيف أو غير سخيف، ولكنه محبب إلى نفسي، حلو الوقع على قلبي، ثم أمنحها أجرة الغرفة فتنطلق من عندي شاكرة متهللة، وتقعد وحدها في البهو تداعب كلبها الصغير أو تغزل حاجة لها من قطن أو صوف. فإذا لبست ثيابي وانطلقت أنا بدوري إلى البهو، وجدتها مضطربة ناشطة مقيمها في مكانها، فأما غرفتها فمحكمة الإغلاق، والله وحده أدرى ما بها من أشياء، وما عرض لها من أحداث، وما دخل إليها من ناس!

وربما جئت إلى بيت في ساعة متأخرة من الليل، فألقى غرفتها السرية مضاءة بالكهرباء على أسطع ما تكون الأنوار، والهدوء الصامت يلف أركانها وجنباتها، وصاحبتها جالسة إلى بعض نوافذها على الشارع العام تدخن سيجارة في سهوم طويل، وتتفحص ببصرها الحاد من يغدو ويروح على ندرة المارين آنذاك. فأسلم عليها وتسلم علي ثم أدخل غرفتي العريانة، وأستلقي على فراشي البارد. . . وما أكاد ألتمس النوم حتى أجدني أرسم في الفضاء المظلم وبالخط العريض ألف علامة استفهام وتعجب!. .

وما زايلني قط شبح الغرفة ذات الأسرار. لقد ألفت هذا الشبح على الزمان، وربما أحببته في بعض الأحيان، وقد يكون أغراني بسره وشاقني بغموضه، ولكني كنت أبدأ معه في شك من حقيقته، وخوف من ظله، وحرص على كشفه.

ولطالما راودتني نفسي أن أركل برجلي باب الغرفة المغلقة فلعلي أطلع على مواقع الأقدام فيها، وعلى ما يتراقص من ذكريات في حواشيها، ثم لا ألبت أن أرعوى وأثوب إلى الهدي

<<  <  ج: ص:  >  >>