للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْحِسَابَ هَلَكَ". (١) ولهذا قال في الحديث - لما قيل له: "وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ". فتَبَيَّن بهذا الحديث أنَّه لا بُدَّ من عفو الله وتجاوزه عن العبد، وإلا فلو ناقشه على عمله لما استحق به الجزاء، قال الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ) [الأحقاف: ١٦]، وقال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣)) إلى قوله: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)) [الزمر: ٣٣ - ٣٥] .... ". اهـ (٢)

المذهب الثالث: أنَّ الباء في الآية للمعاوضة والمقابلة وليست للسببية.

وبهذا جزم الشيخ جمال الدين ابن هشام (٣) في "المغني" فقال: "المعنى الثامن للباء: المقابلة، وهي الداخلة على الأعواض، كاشتريته بألف درهم، وقولهم هذا بذاك. ومنه قوله تعالى: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: ٣٢]، وإنما لم نُقدِّرها باء السببية - كما قالت المعتزلة (٤)، وكما قال الجميع في: "لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ"- لأنَّ المعطي بعوض قد يُعطي مجاناً، وأمَّا المُسَبَّبَ فلا يوجد بدون السبب، وقد تَبَيَّن أنه لا تَعارض بين الحديث والآية لاختلاف محلي البائين، جمعاً بين الأدلة". اهـ (٥)

المذهب الرابع: أنَّ الباء في الآية ليست للسببية؛ بل للإلصاق أو المصاحبة، والمعنى: أورثتموها ملابسة أو مصاحبة لأعمالكم.

وهذا مذهب الكرماني، واختيار العيني. (٦)

وجَوَّزا أنْ تكون الباء في الآية للمقابلة كما هو مذهب ابن هشام.


(١) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الرقاق، حديث (٦٥٣٦).
(٢) نقلته باختصار من "رسالة في دخول الجنة"، ضمن مجموع بعنوان "جامع الرسائل"، لابن تيمية (١/ ١٤٥ - ١٥٠) وأطلت في نقل كلامه - رحمه الله - لنفاسته وأهميته. وانظر له: التوسل والوسيلة (١/ ٦٠)، ومجموع الفتاوى (٨/ ٧٠).
(٣) هو: عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام. من أئمة العربية، مولده ووفاته بمصر. قال ابن خلدون: ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه. من تصانيفه (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) و (عمدة الطالب في تحقيق تصريف ابن الحاجب) و (أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك)، وغيرها (ت: ٧٦١هـ). انظر: الأعلام، للزركلي (٤/ ١٤٧).
(٤) تقدم قولهم والرد عليه في أول المسألة.
(٥) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام، ص (١٢١).
(٦) انظر: فتح الباري، لابن حجر (١١/ ٣٠٢)، وفيه النقل عن الكرماني.

<<  <   >  >>