للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الإجازة في حياة المسلم]

السؤال

ونحن مقبلون على إجازة نصف العام، يخرج كثيرٌ مِن الناس إلى البَرِّ للتَّنَزُّه، فما هي نصيحتك للإخوة في قضاء هذه الإجازة وخاصة الشباب؟

الجواب

إن المؤمن ليست له إجازة، إن المؤمن لا يزال في هم وغم حتى يلقى الله، فيلقي عصا الهموم والغموم بين يدي الله جل في علاه، فإن الله كتب على أهل الإيمان أنهم في ابتلاء واختبار، ولا تزال الدنيا تصب همومها وغمومها على أهل الإيمان حتى يلقوا الله العظيم الرحمن؛ ولكنها إجازة بمعنى.

فيا مَن متعك الله بأيامٍ خلوتَ فيها عن الأشغال! تذكر نعمة الكبير المتعال.

تذكر المأسور برزق أهله، لا يجد إجازة في مسائه ولا يومه.

تذكر المريض طريح السرير الأبيض، لا يستطيع أن يقوم على قدميه؛ لكي يتمتع بما أنت فيه.

فليكن من شكر الله عز وجل الذي أعطاك الفراغ: أن تحمد الله جل جلاله أولاً وآخراً، وقل بلسان الحال والمقال: اللهم لك الحمد أن فرَّغت قلبي من الشواغل، فأسألك يوماً يرضيك وغداً يكون في مراضيك، سل الله عز وجل أن يوفقك فيه للصالحات، ثم اغتنم هذه الإجازة، فإنها أيامٌ قليلة إما حُجَّةٌ لك، أو حُجَّةٌ عليك، (كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه، فمعتقها، أو موبقها).

أخي في الله، إخواني في الله: كم من إنسان سرَّه أن يبقى إلى زمان ساءه ذلك الزمن إذا بقي إليه، فسلوا الله العافية، فإن الأيام فيها مغيَّبات لا يعلمها إلا الله عالم المغيَّبات، سلوا الله العافية، واسألوه أن يمتعكم بأيامٍ ترضيه عنكم، واعلموا -إخواني- أن أفضل ما تُقْضَى فيه الأعمار، وأفضل ما يُسْتَغل فيه الليل والنهار: ذكر الله الواحد القهار، فأكثروا من ذكر الله، فإن خرَجْتَ إلى البَرِّ: فانظر إلى الأرض، وقل: سبحان من دَحَاها! {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات:٣١].

ثم ارْمِ إلى السماء بطرفك وقل: سبحان من بناها! {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:٢٨ - ٢٩].

ثم انظر إلى هذا الملكوت الذي جعله الله مذكِّراً بالله جل جلاله، كل مَن حولك يقول بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله! انظر إلى الأوراق فقل: سبحان من أجرى الماء فيها! سبحان من أحياها بعد موتها! وانظر إلى الربيع بساطاً أخضر على الأرض فقل: سبحان مَن ألقى خضرته! وسبحان من زيَّنه وأنبته جل جلاله، وتقدست أسماؤه! ثم انظر إلى حشراته، وهوامِّه فقل: سبحان من أحصاها عداً! ولا يغيب منها شيءٌ عنه فرداً، جل جلاله وتقدست أسماؤه! وانظر إلى تلك الأمم التي تسعى وتدب بين يديك فقل بلسان الحال والمقال: سبحان من تكفَّل بأرزاقها! سبحان من أغناها وأولاها! ثم انظر إلى كل شيءٍ حولك؛ انظر إلى الليل إذا أرخى بظلامه، فقبل لحظات يسيرة وأنت في ضياء الشمس، وإذا بك في ليل بهيم! لم يختلط الليل بالنهار، ولم يسبق العشي الإبكار! وسبحان الله الواحد القهار! سبحانه! وفي لحظة واحدة أظلمت عليك الدنيا، لو أخرجتَ يدك لن تَرى شيئاً فيها! سبحان الله جل جلاله! وانظر إلى تلك الظلمات، واذكر ظلمة الحُفَر والقبور، علَّها أن توقظ قلبك لله العظيم الشكور.

ثم إذا أرخى عليك الليلُ سدولَه؛ فانظر إلى السماء وقل: سبحان من زيَّنها بالكواكب زينة وشهباً! لا يفوت عنها شيطان غائب.

ثم انظر إلى النهار فقل: سبحان من أقبله بضيائه! سبحان من أجرى شمسه! سبحان من أشع نوره! وأبلج ضياءه! إنها آياتٌ ما أوجدها الله عبثاً، بل أوجدها لكي تخرج من هذا المكان الذي نزلتَه وأنت على عقيدة بأنه "لا إله إلا الله".

ثم إذا مضت عليك الأيام، وجاءك اليوم تلو اليوم فانظر إلى آخر الأيام إذا طُوِيَت رحلتُك وآذَنَتْ بالرحيل! فأين اللذات؟! وأين الملهيات؟! كأن لم يكن شيئاً، كأنك لم تنزل إلى ذلك المكان.

كأن شيئاً لم يكن إذا انقضى وما مضى مِمَّا مضى فقد مضى فقد مضت الأيام، فالله أعلم بما خبَّأْتَ فيها من خير ترجوه، أو شرٍ تلقى الله به إذا لقيتَه.

فخير ما يوصى به الإنسان: أن يعمِّر وقته بذكر الله.

والوصية الأخيرة: أن تسخِّر أبناءك وبناتك وزوجك لكي يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:١٠١].

قل لهم بلسان الحال والمقال: من الذي دبر هذا الوجود؟! من الذي جعل الشمس تجري، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٣٩ - ٤٠]؟! هل استطاع أحدٌ أن يكف شعاعها يوماً من الأيام؟! هل استطاع أحدٌ أن يجعل الليل ضياءً يوماً من الأيام؟! سبحانه جل جلاله! {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:٧١]، سبحانه! لا إله إلا الله! فخذ من هذه المواقف مدارس التوحيد، واغرس في تلك القلوب البريئة تعظيم الله الحميد المجيد، واللهِ إن أحبَّ الأشياء إلى الله، وأعظمها زلفى بين يديه: أن تغرس الإيمان في قلب ابنٍ من أبنائك، وأن تخرج من هذه الدنيا وابنك يوحد الله حق توحيده، ويعظم الله حق تعظيمه وتمجيده.

اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذاكرين، وأن لا تجعلنا من الغافلين، وأن تجعل هذه الإجازة عوناً لنا على طاعتك، وأن توفقنا فيها لسبيل محبتك.

والله تعالى أعلم.