للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأمور التي تنبغي على الداعية بعد الدعوة]

أما ما ينبغي على الداعية بعد الدعوة فهناك أمور: منها أنه لا يخلو من حالتين: إما أن تستجاب دعوته، وإما أن ترد دعوته، فإن استجيب لدعوتك ووقعت في موقعها فالله الله في الإخلاص، الله الله أن يدخلك الغرور بالنفس، فكم من داعية هلك بسبب الغرور، وكم من ناصح هلك بسبب الغرور، وكم من عالِم أهلكه الله بغروره بعلمه، فلا تعتقد أن الناس تأثرت بأسلوبك وبلاغتك، ولكن للقلوب مفاتيح ربانية وهبات إلهية ومنح من الله عز وجل يتفضل بها على من يشاء، هو الهادي إلى سواء السبيل، وهو الذي يشرح الصدور بفضله وينورها بكرمه، وليس الفضل لأحد، بل الفضل كله لله وحده لا شريك له، وأصدق شاهد على ذلك نبي الله نوح، ونبي الله لوط، نبي قام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ما استطاع أن يهدي زوجته وكانت من أهل النار، فدل هذا أننا لا نملك لأنفسنا فضلاً عن أن نملك لغيرنا شيئاً، فينبغي للداعية ألا يغتر بأسلوبه.

الأمر الثاني: أنه ينبغي عليه إذا وجد القبول أن يحرص على سقي تلك البذرة الطيبة، فإذا وجد القلب استجاب له لان له أكثر وتوطأ له أكثر واقترب منه أكثر وأعطاهم من الود والمحبة أكثر مما كان عليه، هذا صنيع من يغار على الدين ويريد أن يهدي عباد الله إلى رب العالمين، تنزل نفسك للعباد إذا وجدت الاستجابة والقبول بنفس طيبة ونفس منشرحة ترجو بذلك رحمة الله، وتطمع في رضوان الله وعفو الله سبحانه وتعالى.

أما الأمر الثاني أيضاً مما يترتب على الإنسان بعد الدعوة وهي الحالة الثانية: إذا نفر الناس من موعظتك وأعرضوا عن كلمتك وجفت لدعوتك فماذا تصنع؟! أولاً: عليك بالدعاء أن يشرح الله صدورهم وأن ينور قلوبهم، وأن يحسن الاستجابة منهم.

ثانياً: إياك أن تقنط، فإن الشيطان حريص على إبعادك منهم.

ثالثاً: ربما أن الله -لحكمة- لا يجعل أذناً تصغي لموعظتك؛ لعلمه أن ذلك أعظم في أجرك وأثقل في ميزانك وأرفع لدرجتك، يكون معك زميل في العمل أو يكون معك جار بجوار البيت تدعوه فلا يستجيب وتذكره فلا يجيب، وهكذا اليوم ثم الغد ثم بعد الغد وهكذا، وإذا بتلك الكلمات تمر عليك سنة كاملة وأنت تنصح وما تدري كم لك من الحسنات في تلك النصائح، ولربما أنه لو استجاب من أول مرة ما فزت بتلك الدرجات، فلله حكمة في إعراض الخلق عنك، فإن نوحاً عليه الصلاة والسلام مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً وما قنط إلا في الأخير حينما قال: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:٢٧] فقامت الدلائل على أن لاّ منفعة فيهم، فقنط منهم ويئس من دعوتهم، فالمقصود أن الإنسان لا ينبغي له أن يقنط أو ييئس من دعوته، وهناك أمور ينبغي عليه أن يراعيها إذا حصلت الإساءة من الغير: وهي مقابلة الإساءة بالإحسان، فإذا وجدت من الناس أذية في دعوتك وتهمة في كلمتك وسوء ظن بمنهجك فلا تلتفت إلى ذلك، وإنما علق الأمل بالله، ولا ترد السوء بالسوء فإن خُلُقَ أنبياء الله والدعوة إلى الله أن يردوا السوء ولا يردوا عليه بسوء {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:٦٦] {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:٦٧] كان بإمكانه أن يقول لهم: أنتم السفهاء، ولكن انظر إلى أسلوب الأدب الإلهي الذي أدب به أنبياءه: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:٦٧] فالمقصود أن يبتعد الإنسان عن الخنا وعن الكلمات التي لا خير فيها، وعن تنفير العباد بسوء أسلوبه، وفي الحقيقة أنني لا أحب أن أسترسل في هذا الموضوع وهو موضوع من الأهمية بمكان، ولكن نظراً لضيق الوقت أقتصر على هذا، وأرجو من الله تعالى أن يضع فيه البركة، فقليل مع البركة خير من كثير لا بركة فيه، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.