للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كيفية الجمع بين طلب العلم والعمل في التجارة]

السؤال

أنا طالب علم، وقد جربت التجارة فوجدت أنني موفق في التجارة، وأنا الآن محتار بين طلب العلم أو العمل في التجارة، ووالله لست بجامع للدنيا، ولكن أريد أن أستعمل هذه التجارة لوجه الله تعالى، فبماذا ترشدني وفقك الله؟

الجواب

أنت بين تجارتين: تجارة فانية وتجارة باقية، فإن قلت: أطلب التجارة للدين فهذا فضل ونية صالحة، ولكن هل تستطيع أن تضمن نفسك على هذا الثبات، وعلى هذا الحب لما عند الله جل وعلا إلى أن تصيب التجارة؟ لا تستطيع، ولكن إذا طلبت العلم نفعت الناس في تجارة مصلحتها باقية، فأنت بين تجارتين: تجارة مصلحتها مضمونة وتجارة مصلحتها باقية خالدة تالدة حتى تكاد تكون قطعية؛ لأن الإنسان إذا طلب العلم كسر قلبه للآخرة.

ولذلك الإنسان إذا طلب العلم وفقه الله لبذله إذا أخلص لوجه الله، فأنا أوصيك أن تؤثر تجارة الآخرة على تجارة الدنيا، فلعل الله أن يرى منك صدقاً في طلب تجارة الآخرة وتطلب العلم، ثم يفتح لك باباً من أبواب الدنيا، فيكون قد جمع الله لك بين التجارتين، فلذلك لا أوصيك أن تترك تجارة العلم، والله إنها لأعظم التجارات وأربحها وأحبها إلى الله جل وعلا، يأتيك الرجل في دياجير الظلمات لا يدري امرأته تحل له أو تحرم عليه، مهموماً مغموماً مكروباً فتفتيه الفتوى، فيقول: الله يرحم والديك، سبحان الله! يعني ليس خيرها لك فحسب، بل حتى لوالديك، فقد يكونا ميتين تغشاهم الرحمات بهذه الدعوة الصالحة، تجارة العلم تجارة رابحة.

ولذلك قال بعض العلماء في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:٦٩] ثم من بعدهم {وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:٦٩] قال بعض العلماء: الصديقون هم العلماء العاملون جعلنا الله وإياكم منهم.

العلم مع العمل أفضل وأعلى وأسمى وأصل التجارات وأقربها إلى الله جل وعلا وأحبها إليه، فلذلك أوصيك بهذه التجارة الباقية، أما تجارة الدنيا فاتركها لأهلها، ولذلك ورد في الحديث الصحيح في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب البقاع إلى الله مساجدها) هذه تجارة العلم التي فيها مساجدها: (وأبغض البلاد إلى الله أسواقها).

قال بعض العلماء: أبغض البلاد إلى الله أسواقها؛ لأن فيها النجش، وفيها الحلف بالله كاذباً، وفيها غش المسلم، وفيها أكل أموال الناس بالباطل، وفيها الربا، وفيها المحرمات والمنكرات، وغير ذلك من الغفلة عن الله جل وعلا وعن ذكر الله.

فلذلك لا أوصيك أن تزج بنفسك إلى هذه الفتن، وقد تقول: إني أريد المال للآخرة، لكن لا تضمن نفسك، ولذلك لما أمر المنصور أبا قلابة أن يتولى القضاء فر إلى الشام رحمة الله عليه، فقيل له: لم لا تتولى القضاء وأنت أنت؟ فقال رحمه الله: أرأيتم لو أن رجلاً يسبح ورمي في البحر إلى متى يسبح.

حتى لو كان سباحاً إذا رمي في البحر فإلى متى يسبح؟! تأتيه الأمواج تلو الأمواج تلو الأمواج حتى يفنى ويهلك ثم يغرق.

هكذا الإنسان ولو كان قوي الإيمان في خضم الفتن الكثيرة تأتيه الفتنة تلو الفتنة، ويأتي رجل يكذب ويقول: لمصلحة العمل، ويأتي آخر يغش ويقول: لمصلحة العمل، قد يخالط الأشرار، قد يخالط الفجار، قد يسمع الحلف بالله كاذباً، يسمع المنكرات فلا يستطيع أن ينكر منها منكراً، فلا يزال يفقد نوراً من الإيمان نوراً من الإيمان، حتى لربما دخل السوق وليس في قلبه إلا مثقال الذرة من الإيمان نسأل الله السلامة والعافية.

هذه فتن سلم نفسك وفر من الله إلى الله، وخذ بصلاح دينك ودنياك وأخراك، والله تعالى أعلم.