للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سبب نزول قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ... )

السؤال

ما سبب نزول الآية الكريمة: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:٥٦] وما المناسبة لهذه جزاك الله خيراً؟

الجواب

الأصل في هذه الآية من قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:٥٣] أن أناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تعاظموا ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من الذنوب والزنا والمحرمات وغيرها, فأنزل الله هذه الآية, رغبهم فيها في التوبة، وأخبرهم أن الله عز وجل سيمُن عليهم إذا أنابوا بالرجوع والتوبة, هذه الآية الكريمة بين الله جل وعلا فيها سعة رحمته, حينما ظن بعض الأصحاب أن الذنوب لا تشملها تلك الرحمة الواسعة، فهذا هو أصل نزول الآية.

وأما بالنسبة للآية التي ذكرناها فهي مرتبة على آية قبلها، وهي أن الله أمر بالإنابة, وحذر من لم ينب أنه ستمر عليه مثل هذه اللحظة التي يبكي فيها على تفريطه في جنب الله, والله تعالى أعلم.

أما المناسبة: فالمناسبات بين الآيات للعلماء فيها وجهان: من أهل العلم من قال: لا ينبغي أن يبحث عن المناسبات بين آيات السور؛ لما في ذلك من التكلف, والله يحكم ولا يعقب حكمه, ويقول وما أصدق ما يكون من قوله, فالله جل وعلا لا يسأل عما يفعل, ولا يقال: لماذا قال كذا؟ ولماذا جاءت آية كذا بعد كذا؟ فإن الذي تكلم بالقرآن هو العظيم الرحمن, وهذا الكلام إذا صدر من عظيم فإن فيه من الحكم والأسرار ما لا تدركه العقول, فيه من الحكم والأسرار وحسن البيان وكماله ما لا يعلمه إلا الله جلا وعلا, فلا يستطيع العبد مهما بلغ من العلم أن يدرك حقائق المناسبات بين السور والآيات, ولذلك شدد بعض العلماء رحمهم الله في ذلك، وكان السلف رحمهم الله في تفسير القرآن يتوقفون على قدر المعاني لا يزيدون ولا ينقصون, والمناسبات بين السور والآيات حدثت بعد السلف بعصور.

ولكن قال بعض العلماء: يجوز أن تذكر بعض اللطائف، ولا يعتبر ذلك توقيتاً للورود, بمعنى: لا تقول هذه الآية جاءت من أجل كذا بعد هذه الآية، ولكن تقول: من الحكم والفوائد كذا وكذا.

فاعلم رحمك الله أن من كمال منهج المشرع أنه إذا أمر بشيء فإنه ينبغي أن يضع تقديراً أن الشيء يطاع أو يعصى, فإن أطيع وعد بالمثوبة، وإن عصي رهب بالعقوبة, فالله جل وعلا فتح أبواب الإنابة، ولما كانت النفوس البشرية منها من يسابق فينال الرحمة، ومنهم من يتقاعس فينال النقمة؛ فلذلك كان لوجود هذه الآية نوع من التأثير، وهو أن النفس الضعيفة التي لا يفيد فيها الترغيب سيأتيها أسلوب الترهيب, فأول الآية ترغيب: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:٥٣] هذا ترغيب, فالنفوس التي ينفعها الترغيب تتأثر, ثم جاء النوع الثاني وهي النفوس التي لا تقرع ولا ينفع فيها الترغيب، وهي النفوس التي تزجر وترهب فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:٥٤ - ٥٥] {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} [الزمر:٥٦] فهذا من أبلغ ما يكون في حسن البيان, وكمال التوضيح من العظيم الرحمن، والله تعالى أعلم.