للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال الإنسان عند حلول سكرات الموت]

وتخيل نفسك طريحاً بين أهلك، وقد وقعت في الحسرة، وجفتك العبرة، وثقل منك اللسان، واشتدت بك الأحزان، وعلا صراخ الأهل والإخوان.

كأنني بين كل الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد تجمع حولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني ويدعى لك الأطباء، ويجمع لك الدواء؛ فلا يزيدك ذلك إلا هماً وبلاءً.

وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني وبعدها: تيقنت أن الموت قد فاجأك، وأن ملك الموت قد وافاك، فيئس منك الطبيب، وفارقك الحبيب، فوقعت في الحسرة، وجاءتك السكرة.

{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩].

فتخيل نفسك وأنت في نزع الموت وكربه، إذا نظرت ببصرك إلى من هم حولك، فرأيت أمك وأباك وأختك وأخاك، وقد سالت منهم الدموع فلا ترد عليهم جواباً، ولا يستطيع لسانك خطاباً.

تلك اللحظة التي يلقي الإنسان فيها آخر النظرات على الأبناء والبنات، والإخوان والأخوات، يلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، وتبدو على وجهه معالم السكرات، وتخرج من قلبه الآهات والزفرات.

واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار ريقي مريراً حين غرغرني ثم اشتد بك النزع والسياق، وقد بلغت الروح التراقي.

{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:٢٦ - ٢٩].

وبطلت بعدها كل حيلة، وعجزت كل وسيلة، وعلمت أن نهاية المطاف: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:٣٠].

لا إله إلا الله! من ساعة تطوى فيها صحيفتك، إما على الحسنات أو على السيئات، تتمنى حسنة تزاد في الأعمال، تتمنى حسنة تزاد في الأقوال، تتمنى صلاح الأقوال والأفعال.

{رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:١٠].

تحس بقلب متقطع من الألم، تحس بالشعور والندم؛ أن الأيام انتهت، وأن الدنيا قد انطوت.

وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شرا الكفن وقام من كان أولى الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فتخيل حالك -أيها الغافل- يوم تقلّب على المغتسل بيد الغاسل، قد زال عزك عنك، وسلب مالك منك، وأُخرجت من بين أحبابك، وجهزت لترابك، ونودي أين المغسل؟! فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وألبسوني ثياباً لا كمام لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني ثم ألبسوك الكفن، وحملت إلى العفن، وأخرجت من بين أحبابك، وجهزت لترابك، وأسلمت إلى الدود، وصرت رهيناً بين اللحود، وصار القبر مأواك إلى يوم القيامة ومثواك.

{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:٢٢].

في لحظة واحدة أصبح العبد كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، طويت الصفحات، وصرت في عداد الأموات، تذكر كأن لم تكن في الدنيا، كأن عينيك لم تر، وكأن أذنك لم تسمع، وكأن الأرض لم تضرب عليها الخطى.

وأخرجوني من الدنيا فواأسفا على رحيل بلا زاد يبلغني وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني