للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الوقفة الأخيرة: حال الحاج عند طواف الوداع]

أحبتي في الله! وبعد ذلك -وما بعد ذلك؟ - يسير العبد إلى آخر مرحلة من حجه، وهي: طواف الوداع، وهيا للحظة الأخيرة التي يودع فيها الإنسان بيت الله الحرام، يودع فيها دار السلام، يطوف بذلك البيت لكي يكون آخر عهده بالبيت طوافاً، ولطواف الوداع حلاوة، ولطواف الوداع لذة وطلاوة.

طواف الوداع يذكرك بفضل هذه المنازل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كان الناس يسفرون من فجاج منى وعرفات) كان الناس يسفرون، يعني: يخرجون إلى ديارهم، ويرجعون إلى أمصارهم من فجاج منى وعرفات (فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً).

فإذا طاف الإنسان طواف الوداع طافت به أشجان وأحزان، لأن العبد الصالح من أعظم ما يؤلمه، وأشد ما يجده في دينه إذا فارق الطاعة والعبادة، ولذلك كان بعض السلف إذا كانت آخر ليلة من رمضان جلس يبكي ويقول: ألا ليت شعري من هو المحروم فنعزيه؟ ألا ليت شعري من هو المقبول فنهنيه؟ فالإنسان إذا قضى عبادته وانتهى من حجه، فإنه لا يدري أقبل الله حجته أم لم يقبلها، وإن كان الظن بالله حسناً، فوالله لو عاملنا الله بما نحن أهل ما طمعنا في شيء، ولكن هي رحمته، وهو حلمه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله.

قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته).

فما هذه العبادة التي قمت بها؟ وما هذا الموقف الذي وقفته؟ وما هذه الجمرات التي رميت؟ وما هذه الليالي التي بت في جنب نعم الله، وفي جنب منن الله، وفي جنب فضائل الله وإحسان الله بي؟ فتأتي تلك الساعة وهو يحتقر العبادة.

إياك ثم إياك أن يأتي وأنت تدلي على الله بالعمل، إياك ثم إياك أن تحس من النفس غرورها، أو يلتهب في النفس شرورها، فتقول: أنت العبد الصالح، ها قد أديت فريضة الله، ها قد فعلت وها قد فعلت.

لا، إنها ساعة الفراق التي يمتلئ فيها القلب ذلة لله عز وجل وطمعاً في أن يتقبل الله منك العمل.

كان عبد الله بن عمر صحابياً جليلاً، حتى ورد في بعض كتب السير: -كما في الحلية وغيرها- (أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة) من صلاحه رضي الله عنه وأرضاه، وكان إذا رأى عبداً يصلي ويكثر الصلاة أعتقه لوجه الله، قالوا له: إنهم يخدعونك بكثرة الصلاة.

قال: من خدعنا لله انخدعنا له.

هذا الصحابي الجليل حضرته الوفاة فجلس يبكي فجاءه ابنه سالم، وقال: يا أبتاه! ألم تكن كذا وكذا وكذا.

يذكره بما كان عليه من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ يعدد فضائله التي فضله الله عز وجل بها حتى أكثر عليه، فقال رضي الله عنه: أجلسوني، ثم قال: يا بني! أتدري ممن يتقبل الله؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:٢٧] ما عد نفسه شيئاً.

إذا كان هذا عبد الله بن عمر، فكيف نحن نطمع بحسناتنا وصالح أقوالنا وأفعالنا؟! وما يدري العبد لعل ذنباً أصابه أوجب عليه سخطاً لا رضا بعده، ولعل كبيرةً أصابها، ولعل عبداً من عباد الله ظلمه بمظلمة لم يقبل الله عز وجل عليه بعدها؟! والأمور مردها إلى الله عز وجل: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:١٠٥].

لا أحد يدري هل قبل الله العبادة أم لم يقبلها؟! لذلك فإن الإنسان في هذه اللحظات يوصى باحتقار العمل، ولذلك قال العلماء: إن احتقار العمل من مظان القبول.

إذا جاءت هذه اللحظة وصدرت عن البيت صدرت وكلك شوق وحنين أن يرحمك الله بقبول الحجة، وناديه وناديه وقل: يا رب! اقبل حجتي، واغفر ذنبي، وضع عني إصري.

ادع الله دعاء المضطر ودعاء المستغيث المستجير به جل شأنه.

حتى إذا انتهيت من ذلك فاسأل الله أن لا يجعله آخر العهد ببيته، بل تعود مرات ومرات.

ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله عن بعض السلف: أنه وقف بمزدلفة -في المشعر- وقال: والله الذي لا إله إلا هو! إن لي ثلاثين عاماً أسأل الله ألا يجعله آخر العهد بهذا الموضع، وقد استجاب الله دعوتي، وإني لأستحيي أن أسأله هذا العام.

فرجع فقبضه الله عز وجل.

ولذلك من طمع في أن الله عز وجل لا يجعلها آخر حجة له فإن الله كريم قد لا يخيبه في طمعه، فاجعل في نفسك حنيناً ألا يجعلها آخر العهد ببيته، وألا يجعله آخر العهد بطاعته.

حتى إذا رجعت إلى الديار، وأقبلت على الأمصار عندها تذكر ما بينك وبين الله من العهود، تذكر ما بينك وبين الله من المواثيق، وقل بلسان الحال والمقال: توبة نصوح لا ذنب بعدها إن شاء الله.

قال بعض العلماء: من علامة قبول الحج أن يكون العبد بعد الحج أصلح منه حالاً قبل الحج.

يا عبد الله! إذا لبيت لله فاعلم أنك قد عاهدت الله على توحيده؛ فإياك أن ترجع -والعياذ بالله- بالله مشركاً، إياك بعد أن ناديته وتشرفت بالوقوف بين يديه أن تستغيث بأحد سواه، أو تستجير بمن عداه، فقد وجدته حليماً رحيماً، ووجدته جواداً كريماً، فإلى أين تفر؟! إلى أين تعرض؟! فلذلك اجعله عهداً بينك وبين الله أن لا معاذ ولا ملاذ ولا منجى ولا ملجأ من الله إلا إلى الله، اجعله عهداً مؤكداً، واجعله عهداً موثقاً أن تكون على طاعة واستقامة إلى أن تلقى الله تبارك وتعالى.

إذا كنت بالمعاصي مبتلى فخذها طريقاً إلى التوبة النصوح، خذها حجة تمنعك وتحجبك عن معاصي الله عز وجل، فقد حللت به ضيفاً، وضيف الله يستحيي من الله، فبعد أن أقدمك الله إلى هذه الديار، وتشرفت بذكر العظيم القهار، عندها ترجع عبداً صالحاً تقياً ورعاً.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى حجاً مبروراً! وسعياً مشكوراً! وذنباً مغفوراً! اللهم إنا نسألك أن تيسر لحجاج بيتك الحرام حجهم، اللهم يسر لهم حجهم! اللهم ارحم ضعفهم! اللهم ارحم غربتهم! اللهم ارحم فقرهم! اللهم ردهم إلى ديارهم سالمين غانمين رابحين! اللهم ردهم إلى ديارهم مرداً جميلاً! اللهم ردهم إلى ديارهم مرداً جميلاً! وهب لهم عملاً صالحاً مباركاً جليلاً، برحمتك يا أرحم الراحمين!! اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تؤمنهم في حجهم بأمنك! اللهم أمنهم في حجهم بأمنك! اللهم أمنهم في حجهم بأمنك! اللهم الطف بهم حضراً وسفراً! اللهم الطف بهم حضراً وسفراً! اللهم ادفع عنهم الوباء! وأزل عنهم الشعث والعناء، واجعلهم في صحة وعافية، وبلغهم رضوانك يا رب العالمين! اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ولمن له حق علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.