للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بين الجد والمزاح]

السؤال

لي صديق كثير المزح كثير الضحك قليل النصيحة لي، وإذا ذكرته بالله جل وعلا فهو يكثر من المزح ولا يتقبل مني ذلك، فكيف السبيل إلى الخلاص من هذا الداء العضال؟

الجواب

أما المزاح فهو يكون بقدر، والله عز وجل جعل شريعتنا شريعة رحمة، لا شريعة عنت ولا حرج، فإذا أراد الإنسان أن يمزح فليمزح بقدر، ولذلك شبه العلماء المزح بالملح الذي تضعه في الطعام، فإذا كثر الملح فسد الطعام، وإذا كان طعاماً بدون ملح لم يكن للطعام طعم، الحياة هكذا، لابد من وجود المزح لكن بقدر، وقد صوّر الشاعر ذلك بقوله: أفد طبعك المكدود بالجد راحةً ويَجِمَّ وعلله بشيءٍ من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما تعطي الطعام من الملح فينبغي علينا أن نعلم أن المزح ينبغي أن يكون بقدر، وكان بعض العلماء يقولون: إن من دلائل صلاح الإنسان وخيريته وجود الطرفة فيه؛ لأن أهل الصلاح فيهم تواضع، والمزح يدل على نوع من التواضع، إذا كان بقدر، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: (والله! لئن وليتموها علياً ليحملنَّكم على السنة، وفيه دعابة).

وهذه الدعابة موجودة في الأخيار، ومن قرأ تراجم العلماء وسير الصلحاء وجد هذا موجوداً فيهم؛ ولكنهم كانوا إذا جاءت الطرفة فتحوا لها قلوبهم ولكن بقدر، وإذا جاءت الشدة وجاءت المحنة وجاء الجد شمَّروا عن ساعد الجد.

فاقبل من أخيك أن يمزح، ولكن إذا جاء وقد الجد ووقت ذكر الله عز وجل فلا تقبل أن يسخر ويمزح، ولذلك كان الإمام محمد بن سيرين يمازح أصحابه؛ وكان إماماً من أئمة التابعين، كان يقال عنه سيد من سادات التابعين، وأوصى أنس بن مالك رضي الله عنه الصحابي الجليل أن يغسله محمد بن سيرين، هذا الإمام الجليل، يقول أحد جيرانه: كان إذا جن عليه الليل سُمع بكاؤه من القرآن من بيته، وإذا أصبحنا سمعنا الضحك من الغرف.

فكان يمزح مع أصحابه حتى يسمع ضحكه، رحمة الله عليه.

لأن أهل الصلاح دائماً قلوبهم سليمة، لكن من كان عنده الكبر والغرور فلا يمزح، وتجد الذي عنده نوع من الترفع على الناس ما عنده طرفة، وقلَّ أن تراه يبتسم، ولذلك ينبغي للإنسان أن يكون وسطاً، فلا إفراط ولا تفريط.

وأما ما ذكرته من كونه يمزح أثناء الجد، فهذا يدل على موت قلبه والعياذ بالله! فإذا وجدت الرجل تذكره بالله فيتبسم ويضحك ولا يقيم لآيات الله وزناً، فمثل هذا حري به أن يبكي على قلبه -نسأل الله أن يعافينا وإياكم من موت القلوب- فقد كان السلف الصالح رحمهم الله من حياة قلوبهم إذا قيل للواحد منهم: اتق الله! يبكي، فكيف بهذا يضحك أو يمزح؟!! ولذلك إياك أن تجلس مجلس موعظة وتسمع الموعظة وتحدثك نفسك بأي طرفة؛ لأن ذلك فيه استخفاف بما عظَّم الله، ولذلك كانوا يقولون: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أجبن عند اللقاء، ولا أكثر عند الطمع، فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٥ - ٦٦]) وفي قراءة واحدة وهي قراءة حفص: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:٦٦]، ولكن في بقية القراءات: (إِن يُعْفَ) حتى العفو يعني جعله بمثابة الاستبعاد لهم (إِن يُعْفَ عن طائفة منكم نعذب طائفة) ولذلك قال الناظم: لـ عاصم قراءة لغيرها مخالفة إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة فالمقصود: أنه لا ينبغي للإنسان إذا حضر وقت الجد والتذكير بالله أن يمزح، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس مع أصحابه بعد صلاة الفجر فيتحدثون بشئون الجاهلية فيتبسم صلوات الله وسلامه عليه، وجلس ذات يوم فذكر الجنة، وقصَّ عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح البخاري: (أن رجلاً يشتاق إلى الزرع في الجنة فيقول: أريد أن أزرع، وإذا به في لحظة واحدة قد جمع له الحب، وفي لحظة واحدة قد اخضر، وفي لحظة واحدة قد جنى ثمره، فإذا به قائم بين يديه -هذا غرس الجنة- فلما أبى؛ لأنه يحب الزرع فقال رجل من قريش: أما هذا فلن يكون إلا أنصارياً -لأن قريشاً ليس عندهم زراعة- فضحك صلوات الله وسلامه عليه) قال: هذا الذي يحب الزرع في الجنة لن يكون إلا واحداً من الأنصار، رضي الله عنهم وأرضاهم.

المقصود: أنه ينبغي للإنسان أن يعلل نفسه بالطرفة، والقلوب لها إقبال وإدبار، وإذا استدامت الموعظة فقد تمل، ولذلك قال بعض الصحابة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة؛ مخافة السآمة والملل).

والله تعالى أعلم.