للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وصايا للدعاة إلى الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

السؤال

فضيلة الشيخ! لو ذكرت لنا القواعد التي يجب أن يعلمها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أثابكم الله؟

الجواب

ما أهون السؤال! وما أعظم الجواب! الاستفتاء سهل، ولكن لو يعلم المستفتي أي مسئولية يتحملها المسئول والمفتي لأشفق والله عليه، هذا السؤال يحتاج إلى دروس ويحتاج إلى مجالس، وتريد من مثل الحقير في خمس دقائق أو في عشر دقائق أن يذكر لك ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم إذا ذكرتها وانتقصت منها شيئاً وتعلقت بي بين يدي الله فمن ينجينا؟ -الله المستعان- فيا أيها الأحبة أشفقوا على أخيكم وأشفقوا على السائل، قال الإمام مالك رحمة الله عليه: لوددت أني جلدت على كل فتوى أفتيتها وخرجت من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي.

بعض طلاب العلم جزاهم الله خيراً حرصاً منهم على الخير والفائدة قد يبالغون ببعض الأمور، فحبذا لو قلت: ما هي الوصايا التي توصي بها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ ما هي الأمور التي وردت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك ينبغي أن يُنظر في جوهر السؤال، وليس في مظاهر السؤال: الضوابط والقيود، هذا والله لو عرض على واحد من أئمة السلف، يمكن أن يسقط على الأرض مغشياً عليه من هيبة الله جل وعلا.

الضوابط والقيود هذه تحتاج إلى إنسان يجلس على الأقل ثلاثة أيام يختم كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار حتى يمر على القرآن ويعرف ما هي ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كاملة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإلى الله المشتكى، وأنتم تحسنون بنا الظن كثيراً.

فيا أيها الأحبة: أوصيكم عند السؤال أن تشفقوا على المسئول، وألا يكون هناك مبالغة؛ لو أني ذكرت ثلاثة ضوابط أو أربعة، ربما بالغ بعض طلاب العلم وظن أن هذه هي ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخرج وهو يظن أنه قد حاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن قل: ما هي الوصايا أو ما هو الذي يوصى به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟ وهكذا حال السلف رحمة الله عليهم في السؤال، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فما هي وصيتك؟ كيف الطريق إلى أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، هذا ربما يكون أخف، ولو أن المسئولية والتبعة موجودة، نسأل الله أن يلطف بنا وبكم.

الله أكبر! من يوم تسير فيه الجبال، وتشيب فيه ذوائب الأطفال، ويعرض على الإنسان فيه حصائل الأعمال والأقوال، لا إله إلا الله! لقد كنا حينما نجالس العلماء الكبار رحمة الله عليهم كانوا ينهونا عن مثل هذه الأسئلة التي فيها القواعد والضوابط، فهذه تحتاج إلى إنسان يدرس ويجلس فترة، مهما كان عالماً وعنده العلم والإدراك، ينبغي أن يحتاط لدين الله ولعامة المسلمين ولطلاب العلم.

فالذي أوصيك به ما يلي: أولاً: الإخلاص: فلا تدع إلا وأنت مخلص، والكلمة التي تخرج من القلب تقع في القلب، ويأبى الله أن تتكلم وأنت مخلص لوجهه أن تذهب كلمتك هدراً أبداً، لن تجد إنساناً ينصح بصدق وإخلاص وهو يرجو رحمة الله تعالى، إلا وقعت النصيحة في قلب المخاطب بها، لكن من الناس من ختم الله على قلبه والعياذ بالله، فلا ينفع فيه موعظة، كالأرض الميتة، ومنهم من تحركه الموعظة فتقلب حياته من شقاءٍ إلى سعادةٍ، ومن شرٍ إلى خيرٍ، وهذه هي الأرض الطيبة التي تمسك الماء وتنبت العشب، ومنهم من تهزه الموعظة، والأمر بالمعروف النهي عن المنكر يهزه، بمعنى أنه يقلل شره، وربما يحدث نفسه بالقرب من الخير، فهذه ثلاثة أحوال.

فإذا كنت مخلصاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلن تعدل عن إحدى ثلاثة أمورٍ: إما أن تستجاب نصيحتك، وهذا غالب حال المؤمنين، فإنك لن تقف على إنسان يؤمن بالله واليوم الآخر، وتصدق في نصيحتك أو محاضرتك أو موعظتك أو كلمتك، إلا دخلت إلى شغاف قلبه شاء أم أبى، هذا إذا كان مؤمناً، كما قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٥٥] قال بعض العلماء: كلما كمل إيمان العبد، كمل انتفاعه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولذلك تجد بعض الناس ينسى ويقع في المنكر، وبمجرد أن تذكره أو تأتيه بأول الذكرى، تجده ينتفض كالعصفور من خشية الله جل جلاله، وهذا ما ذكروه عن بعض السلف أنهم كانوا إذا قيل لأحدهم: اتق الله جلس يبكي! فهذه أكمل ما يكون من عاقبة المخلص لله في الأمر بالمعروف، أو تنال أقل المراتب وهي أن تقيم حجة الله على العباد.

الأمر الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: العلم بما تأمر به وتنهى عنه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:١٠٨] فإذا كان هناك علم فإنك على المحجة وعلى الطريق، وأنت صاحب الحجة بإذن الله جل وعلا، فإذا وقع الإخلاص في القلب وجاء العلم الذي هو النور والبصيرة، جاءت خطواتك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أماكنها، فرضي الله عز وجل عن أمرين منك: رضي عن نيتك؛ لأنك تريد وجهه، ورضي عن كلماتك لأنها حق، والله يحب الحق ويدعو إليه.

والأمر الثالث: أن يكون هناك الأسلوب، وهي الواسطة، إخلاص، ثم حق يقال، ثم أسلوب يحبب ويقرب، وهذا عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا) وبقوله: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).

ويستلزم الأسلوب الرحمة والرفق بالناس، فكلما كملت رحمة الداعية والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بمن يأمره وينهاه، كان أقرب الناس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول عن نبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧] فإذا كملت رحمة الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فإنه قد أصاب من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حظاً وافراً، ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨] فوصفه بكونه بالمؤمنين رءوف رحيم.

فإذا رحمت المؤمن بأسلوبك وبكلماتك الطيبة، أحبك وأحب الكلام الذي تقوله والذي تدعو إليه، قال بعض العلماء: من لازم الرحمة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يقدم أسلوب الترغيب والترهيب وهي الجنة والنار، ويستفتح دعوته بما استفتح به النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الجنة والنار، ولذلك بالمثال يتضح المقال، لو جئت إلى إنسان يشرب حراماً، أو ينظر إلى حرام، أو يفعل أمراً محرماً، فجئت إليه وقلت له مباشرة: يا أخي! هذا حرام، قال الله تعالى، قال رسوله، وهو إنسان -مثلاً- جدلي، أو إنسانٌ عقلانيٌ، كلما ذكرت له أمراً أخذ يسألك ما هي العلة؟ وهذا الحديث من الذي ذكره؟ ولربما يعنت عليك بالأسئلة، فتتعب وتعيي نفسك، ولربما ازداد إصراراً على منكره.

لكن تعال إليه، ثم قل له: يا أخي! أما علمت أن وراءك جنة وناراً، أما علمت أن وراءك قبراً، وأن وراءك سكرات الموت، وحساباً، وديواناً تعرض فيه أقوالك وأفعالك، أيسرك وأنت واقفٌ بين يدي الله حسيراً كسيراً أسيراً فقيراً ذليلاً حقيراً عاري الجسد بين يدي الله عز وجل، أنك على هذه المعصية، ماذا يقول؟ لا يستطيع أن يقول لك شيئاً، هل يستطيع أن يُكذب بالآخرة؟ هل يستطيع أن يرد عليك عذاب القبر؟ مباشرة يقول لك: جزاك الله خيراً، ولربما سكت فدخلت الموعظة -على قدر إيمانه- إلى قلبه، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفتح قوله بهذا كما قالت عائشة: [كان أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار.

ولو نزل لا تسرقوا لا تشربوا الخمر ما آمن أحد] لأن النفوس ضعيفة، فأول شيء تبدأ به أن تغرس الإيمان بذكر الجنة والنار، وترقيق القلوب لربها، فإذا استجابت القلوب استجابت من بعدها القوالب: (ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).

فإذا وفق الله للإخلاص والعلم كان الذي يريد أن يدعو الناس عنده علم، ثم جاء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة والأسلوب الطيب والأسلوب المقنع، فإن الله سبحانه وتعالى إما أن يجعل للإنسان استجابة ويعظم أجره، وإما أن يكون أقل درجاته أن يقيم حجة الله على عباد الله، فيوم القيامة إذا أوقف الله هذا العبد وسأله عن منكره، قال: ألم تبلغك حجتي؟ قد يكابر؛ لأن الله أخبر أن الذين ظلموا يكابرون، فيقيم الله حجته عليه بك، وهذا من أعظم ما يكون من الشرف والفضل، ولذلك رفع الله قدر الرسل بإقامة الحجة على العباد: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥] فكملت حجة الله على العباد بالرسل، ثم يقوم مقام الرسل العلماء، ثم يتشبه بالعلماء طلاب العلم، ثم يتشبه بهما صالحو عباد الله المؤمنون الصالحون الأخيار، فهذا أمرٌ ينبغي للذي يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون على إلمامٍ به.

والعوامل المساعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: صبرٌ على الدعوة، فإذا جئت إلى قومك أو قريتك أو حيك، أو حارتك تريد أن تنصح أو تذكر أخاك أو زميلك في العمل أو جارك، فلا تحسب أنك بمجرد أن تجلس مجلساً واحداً أو تقول كلمتين أنه يستجاب لك، بل ضع في ذهنك أنك ستبقى إلى أقصى أمد (حتى لو تقول عمر نوح) لا تقدر أنه بمجرد أن تقول له كلمة يستجيب؛ لأن الشيطان يريد أن يمكر بالعبد، فيجعل في قلبك بعد أن يكون عندك العلم والإلمام أنك بمجرد أن تقول يسمع منك، لا أبداً، بل ضع في قلبك الصبر.

ولذلك لما أمر لقمان ابنه بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:١٧] فالصبر يشمل الصبر باستدامة الدعوة، والصبر بتحمل الأذى، فإذا تحلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بالصبر كسب النتيجة، ويظهر الصبر في عدة مواقف منها: أنه ربما تأتي وتقول: يا فلان! اتق الله! أمامك جنة ونار اتق الله عز وجل، فربما يعاجلك بكلمة