للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية العناية بجانب القلوب والرقائق]

السؤال

جزاك الله خيراً، إذا تصفحنا كثيراً من كتب العلم، كتب السنة والحديث، نجد أنها ضمَّت إلى جانب أبواب الفقه والعقيدة والطهارة والسير والجهاد وما إلى ذلك، ضمَّت أيضاً باباً أو كتاباً كاملاً عن الرقائق، وقضية الرقائق والسلوك والإيمانيات أيضاً هي من القضايا التي غفل عنها كثير من الملتزمين وطلبة العلم والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، سواء من الناحية العلمية أو من الناحية العملية، فهم من الناحية العلمية -كما سبق أن ذكرنا- لا يقرءون في هذه إلا القليل، وربما تجد الواحد منهم يعرف الكثير عن العلماء الأعلام كـ ابن تيمية رحمه الله، فإنهم يعرفون عن علمه ومصنفاته، وعن جهاده ودوره، ولكنهم قد لا يعرفون شيئاً عن قلبه وعن مدى الإيمان العظيم الذي يضمه بين صدره، ومن الناحية العملية تجد أيضاً أن كثيراً من الناس يفتقرون إلى كثير من القضايا التي ترقق القلوب، فلا نجد زيارة للقبور، ولا حرصاً أو تواصياً على قيام الليل، ولا على كثرة الصيام، ولا غير ذلك من هذه القضايا التي ترقق القلوب وتقوي الصلة بين العبد وبين ربه، فما هو توجيهكم في هذه القضية؟

الجواب

أما جانب العناية بالقلوب ومحاولة الإنسان أن يكون قلبه ليكون قريباً من الله عز وجل، وأن يكون عنده سكينة وخشوع وانكسار، هذا أمر مهم جداً لكل طالب علم، ولكل مسلم فضلاً عن طالب علم أو عن عالم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيما صح من حديث النعمان: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، فالعناية بالقلب ورقته وخشوعه وانكساره أمر مطلوب، ولا ينبغي لطالب علم أن يهملها، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يتحلى بالخشوع ويتحلى بالرقة، (قرأ عليه عبد الله بن مسعود سورة النساء -بطلب منه عليه الصلاة والسلام- حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:٤١ - ٤٢] فقال لي: حسبك، قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان صلوات الله وسلامه عليه)، فكان يتأثر صلوات الله وسلامه عليه، قلبه حي، يتفاعل مع القرآن.

فإذا جلس طالب العلم مثلاً يتكلم عن موضوع يحتاج إلى تأثر، وأن يكون متفاعلاً معه، يتكلم عن جانب الإخلاص، فينبغي أن يكون عنده تأثر، وأن يكون قلبه في رقة، بحيث يتمعر لله ويظهر أثناء حديثه جانباً من الروحانية، أما لو جاء يقرع جانب الإخلاص بذكر السلبيات، وأن الناس يقصرون، وأنهم يراءون، وأنهم وأنهم، فما هي النتيجة، يخرج الناس ما يدرون كيف يعملون ولا ما هو الحل؟ لكن لو جاء وبيَّن فضل الله على العباد، وأن العبد ينبغي أن يستحي من الله، وأن يكون قريباً من الله، ورويداً رويداً حتى يصل إلى القضية التي يريدها، ويجمع بين المادة وبين الروح، بتهيئة النفس إلى قبول ذلك، هذا أمرٌ مهم جداً، وأصدق شاهد على قضية الترهيب والترغيب والعناية بالرقائق ما ثبت في الصحيح من حديث عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: أول ما أنزل- آيات فيها ذكر الجنة وذكر النار-يا إخوان هذا الحديث مهم جداً، وينبغي أن يتنبه له- تقول فيه أم المؤمنين: (كان في أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار، ولو نزل لا تسرقوا، لا تشربوا الخمر، ما آمن أحد).

من أين كانت البداية؟ من جانب الترقيق، لكن جانب الترقيق لا يغلو الإنسان فيه؛ مثلما غلا بعض المتصوفة وبعض أهل الضلالات، لا لا، يجب أن يكون الترقيق منضبطاً بالكتاب والسنة، وتذكر بآيات الكتاب، تذكر بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم معين خصب، ورياض ناضرة لا ينضب معينها، لكن تحتاج إلى ذلك الحكيم الذي يتفاعل معها أولاً، ثم ينقلها إلى الغير.

فأنا أقول: لا بد لطالب العلم، وكل أحد أن يعتني بجانب الترقيق؛ لأن القلب يقسو بأمور الدنيا، والأخذ والعطاء فيها، فأعط لنفسك في اليوم ولو ساعة تقرأ فيها كتاب الله، مثلاً: الإنسان بعد العشاء ينتهي من أعماله، لماذا لا يتوضأ ويفتح كتاب الله إذا كان غير حافظ فيقوم ويركع ركعتين، ولا يعرف فيها شيئاً إلا كلام الله، ينسى الزوجة والأبناء، حتى يعطي كتاب الله حقه من التدبر.

يا إخوان! كل ليلة نؤجل للتي بعدها، نقرأ القرآن بقلوب فارغة، ونقول فيما بعد إن شاء الله يأتينا الخشوع، فيما بعد فيما بعد والنهاية؟ كل يوم ونحن نتدارك الذي بعده، لا، من الليلة، خذ لك ولو نصف ساعة بعد صلاة العشاء اقرأ فيها كتاب الله -سبحان الله العظيم- وحس كأنك المخاطب، إن جاء ذكر النار تصور كأنك فيها، وإن جاء ذكر الجنة تصور كأنك في نعيمها وسرورها، ما بين خوف وبين رجاء، وكما يقول بعض السلف: هما جناحا السلامة، فاقرأ، ثم بعد ذلك قرب قلبك من هذا الكتاب الذي لو نزل على الجبال لاندكت، ولو نزل على الرواسي من خشية الله لانهدت، فقرب نفسك منه، حس كأن هذا الكتاب نزل لك من أجل أن تعمل به، وتتغافل معه فإذا فعلت ذلك فإن قلبك ينشرح، ونفسك ترتاح، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]، وإذا بك -سبحان الله العظيم! - هاتان الركعتان أو هاتان الآيتان اللتان تلوتهما وتدبرتهما والله تجد حلاوتهما في يومك بأكمله، وتجد أثرهما في قلبك.

وكيف كان علماء السلف، كان عالم السلف لا بد أن يختم القرآن كل ثلاثة أيام، الإمام الشافعي جاءته امرأة سألته عن حجية السنة، قال: أنظريني ثلاثة أيام، لماذا؟ لأنه يمر على هذا الكتاب كل ثلاثة أيام، يعني يختم القرآن كل ثلاثة أيام، فلما كانت الليلة الثالثة كبَّر في السحر؛ لأنه في الليلة الثالثة في الثلث الأخير، وفيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧]، قال: يكفي هذه الآية، فعثر على حجية السنة.

فلذلك كان السلف على صلة، العالم يختم القرآن كل ثلاث ليالٍ، معنى ذلك أن أي همٍ من هموم الأمة إذا مرَّ عليه فخلال ثلاث ليالٍ يعرضه على الكتاب، ولذلك لا تجد أحداً يتكلم إلا يقول لك: قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

فأنا أقول: جانب العناية بالرقائق والقلوب مهم جداً، لكن يكون أساسه الكتاب والسنة، وينبغي أن ينبه بعدم العناية كثيراً بالقصص، وترك الكتاب والسنة، لأن بعض الناس يعتني بجانب القصص، حتى أنك تسمع محاضرة، كلها قصص وأحداث وأخبار، وقد يتأثر بعض العامة بها أكثر من القرآن ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما ينبغي هذا، والله بعض آيات الكتاب بل كل آيات الكتاب، لو أن الإنسان أحسن تدبرها وخشوعها وتذكرها، فإن القلوب تتفتت من خشية الله عز وجل، وإن بعض المجالس نعرفها لبعض مشايخنا رحمة الله عليهم وأحسن الخاتمة لأحيائهم، والله لا زلنا نذكر آيات يسيرة ذكرونا بها ولا تزال في قلوبنا؛ لأن القرآن عجيب.

فلذلك ترقيق القلوب يكون بالقرآن، وأما الخيالات والقصص والمنامات وهذه الأمور الحقيقة يفضل تركها إلا ما وافق الكتاب والسنة يذكر بقدر حتى لا يسترسل الناس فيه، ولا مانع أن يستشهد الواعظ بشيء له أصل من الكتاب والسنة.

فالمقصود من هذا كله أن جانب الترقيق مهم جداً، ولذلك جرب الآن واجلس في حلقة فيها مثلاً جانب علمي؛ مادة علمية بحتة، تقوم من الحلقة هناك فائدة، لكن ماذا؟ القلب تجده قد يقسو، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يربط الأعمال بأثرها على القلوب، فيذكر مثلاً الوضوء، قال عليه الصلاة والسلام: من توضأ توضأ وضوءاً كاملاً -كما في حديث حمران عن عثمان في الصحيحين- لما انتهى من الوضوء ماذا قال؟ قال عليه الصلاة والسلام: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غُفر له ما تقدم من ذنبه) تشويق، وأسلوب جمع بين المادة وبين الأثر، كذلك إذا جئت تعلم اجمع بين المادة العلمية وبين الآثار المترتبة، أما أن تكون مادة علمية بحتة، قال فلان قال علان، هذا صعب، والإنسان ضعيف، لا يحتمل كثيراً من هذا، فأقول: جانب الإيمانيات مهم جداً، مهم للداعية، مهم لطالب العلم، مهم للعامة، العامي الآن إذا ذكرته بالله أحياناً يبكي وتجده يتأثر ويهلل ويكبر من الأثر، يمكن أن يكون هذا المجلس سبباً في صلاح سنة كاملة منه بل سنوات، بسبب ماذا؟ جانب الإيمانيات، وأهم قضية قضية الإيمان، إذا صلح للإنسان معتقده وإيمانه بالله استقام، وسار على منهج ربه وأصاب دار السلام، بماذا؟ بالإيمان.

نسأل الله عز وجل أن يكمل إيماننا وإيمانكم، وأن يشرح صدورنا وصدوركم.

والله تعالى أعلم.