للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العلماء هم المؤهلون لفهم نصوص الشرع]

السؤال

فضيلة الشيخ حفظه الله، إنك تقول قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وقد ورد عنه كذا، فما الداعي بعد ذلك أن تقول قال مالك أو غيره؟

الجواب

باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: فإن هذا السؤال فيه إساءة أدب مع أهل العلم رحمهم الله، ينبغي للإنسان أن يعرف قدرهم، وأن يعرف للعالم حقه، ولا خير في إنسان لا يعرف لأهل العلم حقهم وقدرهم، قال الله عز وجل في كتابه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣]، يا هذا! قد قال الله عز وجل وقال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليس كل إنسان متأهل لفهم كلام الله، نقول: قال الله ثم نتبعه بمن هو أهل للفهم، حتى نبين مراد الله عز وجل كما بين الله، ولذلك قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:٨٣]، ما قال كلهم؛ فلذلك لو كانت النصوص يستوي الجاهل والعالم، ويستوي فيها الناس في فهمها، وليس هناك داعٍ للإمام فلان وعلان، فحينئذٍ ما الحاجة إلى وجود العلماء، ولماذا يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ حبر الأمة وترجمان القرآن: (في كتاب الله عز وجل ما لا يعذر أحد بجهله، وفي كتاب الله ما لا يعرفه إلا العرب بلسانهم، وفي كتاب الله ما لا يعلمه إلا العلماء).

فقسَّم علم الكتاب إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما لا يعذر أحد بجهله: فالذي لا يعذر أحد بجهله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] هل يحتاج أحد في فهم هذه الآية؟ الآية واضحة في الدلالة على وحدانية الله، لا يعذر أحد بجهلها ألبتة، فدلالتها على الوحدانية يستوي في فهمها العالم والعامي، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:١٩]، هذه يستوي في فهمها الجاهل والعالم، هذا ما لا يفضل فيه أحد على أحد.

القسم الثاني: ما لا يعرفه إلا العلماء، كمعرفة تقييد مطلق القرآن، وتخصيص عمومه، ومعرفة ناسخه ومنسوخه، وهذا هو الأداة التي يفسَّر بها كلام الله، ولذلك لما قام الرجل ينصح الناس في المسجد ناداه علي رضي الله عنه فقال: (أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: ويحك! هلكت وأهلكت)؛ لأنه ربما يستدل بآية منسوخة، إذا كان لا يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه فربما يهلك بالاستدلال بنصٍ قد رفع حكمه وبقيت تلاوته، فلذلك بيّن أن في القرآن ما لا يعلمه إلا العلماء، قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:٢٣٧]، ما المراد بالذي بيده عقدة النكاح؛ هل هو الزوج، أو ولي المرأة؟ ما لا يعرفه إلا أهل اللسان، ولذلك كان العالم الفحل على سعة علمه وتضلعه في فهم الكتاب تمر عليه الآية مشكلة في اللغة لا يجد حلها إلا عند أهل اللسان، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما كنت أعلم قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:١] حتى اختصم عندي رجلان من كندة؛ قال أحدهما في بئر: هي بئري أنا فطرتها، فعلمت أن معنى (فاطر): موجدها وخالقها.

وكذلك في القرآن ألفاظ نزلت بلغة العرب تحتاج إلى معرفة دلالتها وتحتمل معانٍ، {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:١٧] عسعس: يطلق على أول الليل ويطلق على آخر الليل، على إقبال الليل وإدبار النهار، وإقبال النهار وإدبار الليل، فما هو المراد؟ المقصود: أننا نرجع إلى العلماء لعلمنا بمنزلة العلماء، وهم ورثة الأنبياء، ولا طريق لنا بالفهم إلا طريقهم، فهم الذين أخذوا عن العلماء حتى اتصل سندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خير في إنسانٍ أياً كان ينتقص من قيمة العلماء، فمن انتقص من قيمة العلماء فقال: لا حاجة إلى قول فلان أو علان، فهذا قد ضل السبيل، ولم يعرف لأهل العلم فضلهم، ولا يعرف الفضل إلا صاحب الفضل.

نسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم الأدب مع العلماء، وحفظ حقوق العلماء الأحياء منهم والأموات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والله تعالى أعلم.

هنا أنبه على أسلوب السؤال يا إخوان! من الأدب أن الإنسان إذا أراد أن يسأل أن يحفظ أسلوب السؤال، بدل أن يقول: ما الداعي إلى كذا وكذا، يقول: أشكل عليَّ قولك كذا وكذا، فيكون متأدباً في السؤال، وهذا أمر ينبغي أن يراعى ليس عندي فحسب، بل مع كل إنسان يسأله، كما قال العلماء: إنه ينبغي على من جلس في مجالس العلم أن يحفظ ويعلم آداب المجلس؛ لأنه لربما تحصل منه الفلتة فيخشى عليه، قال بعض العلماء: أخشى على من أساء الأدب في مجلس العلم أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قالوا: كيف ذاك؟ قالوا: لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:٢]، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، وحبوط العمل في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجل النبوة، ومن الذي ورث النبوة وحفظها غير العلماء؟! فلذلك ينبغي التأدب في السؤال، فالشخص بدلاً من أن يباشر بالنقد، أولاً ينبغي أن يكون أهلاً للنقد، فرق بين أسلوب النقد وأسلوب الاستشكال، إذا كان مثل هذا جاهل لا يفهم ولا يعرف حق العلماء يقول: أشكل عليَّ كذا وكذا، لا يقول: ما الداعي إلى كذا وكذا، يجمع بين السوءتين، حشفاً وسوء كيلة؛ سؤال عما لا خير فيه واحتقار للعلماء، وأسلوب لا ينبغي أن يلتزمه من جلس في مجالس العلماء.

إني أذكر رجالاً من أهل العلم والفضل على دراية وبصيرة بنقد العلماء، كنت أجلس معهم في مجالس بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، فيجلس مع العالم، فينسى العالم دليلاً، أو ينسى حجة، أو يلتبس عليه دليل، فيقول: يا شيخ -يريد أن يذكر العالم بالدليل- يقول: يا شيخ هناك حديث أشكل عليَّ في المسألة؛ لأنه يحتمل أن الشيخ نسي الحديث، فلما يقول له هناك حديث، سرعان ما يتذكر الشيخ ويقول: نعم جزاك الله خيراً تذكرت، ولا يستطيع أن يباشره ويقول له حديث كذا وكذا.

إلى الله المشتكى، أين حالنا الآن؟ الآن بعض أهل العلم والفضل قد يقول الحديث قبل أن يقول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه ربما يسبقه طالب علم ويذكر الحديث، وهذه والله يا إخوان رزية، والله إن الأدب نعمة من الله، وجمال طالب العلم الأدب، وإذا رأيت طالب العلم قد التزم الأدب -سبحان الله العظيم! - رأيت الوقار والهيئة، فلا تدري من أي شيء تعجب منه، من حسن طلبه للعلم، أم من جماله في أدب العلم؟! نسأل الله أن يجملنا وإياكم بذلك، فينبغي أن يفرق بين النقد وبين الأدب، النقد فتنة، وأضرب لكم مثالاً: لو أن شخصاً قام أمام الناس وانتقد في سؤاله، ما الذي يحصل؟ يحصل له الاحتقار والنقص من هيبته، ولكن إذا تأدب في سؤاله حصل له الإجلال والاحترام.

فالله الله في مجالس العلماء ومجالس العلم، ينبغي أن نفرق بين أسلوب النقد وأسلوب السؤال والاستشكال.

والله تعالى أعلم.