للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الهدي النبوي في استفتاح قيام الليل]

وكان من هديه عليه الصلاة والسلام إذا استفتح قيام الليل يستفتحه بركعتين خفيفتين لا يطول فيهما القراءة، وقال العلماء: إن هذا من أكمل الهدي؛ لأن المسلم إذا قام من الليل أو الإنسان إذا قام من الليل فإنه يقوم وقد تعلقت نفسه بالراحة والدعة والسكون فإذا هجم على العبادة وأطال القيام فإنه قد يمل وقد يسأم؛ ولذلك ابتدأ عليه الصلاة والسلام بالشيء الخفيف حتى تألفه النفس ويستطيع بعدها أن يطول ما شاء.

قالوا: ومن الفوائد والحكم التي شرع الله بها السنن الرواتب قبل الصلاة أنها تعين على الخشوع أكثر؛ فإنه إذا دخل بركعتين نافلة قبل الفريضة فإن هذا يعين على الخشوع أكثر، وهذا مجرب، فأنت إذا تأملت إلى الناس ونظرت إلى المبكرين إلى المساجد والذين يحرصون على حضور الصلاة إما قبل الأذان أو لا يؤذن إلا وهم في المسجد تجدهم أخشع الناس قلباً في الصلاة، ومن تجده يتأخر ويتقاعس ولا يأتي إلا على الإقامة تجد خشوعه أقل وتأثره بالقرآن أقل، بل تجد ذلك في نفسك جلياً ظاهراً فإنك ما حرصت على التبكير وابتدأت العبادة بالنافلة قبل الفريضة إلا قويت على الفريضة أكثر.

ولذلك قالوا: استفتح قيام الليل بالركعتين الخفيفتين فإنه أدعى لتدبر القرآن وأدعى أيضاً للأعضاء أن تقبل على حركات العبادة وقد استجمت وهيئت بهاتين الركعتين الخفيفتين.

كان صلى الله عليه وسلم يستفتح قيام الليل بالركعتين الخفيفتين واستحب العلماء أن يكون دعاء الاستفتاح في قيام الليل من طوال الأدعية؛ لأن أدعية الاستفتاح تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: دعاء محض.

الثاني: تمجيد محض.

الثالث: ما اشتمل على الدعاء والتمجيد معاً.

فقالوا: يفضل أن يكون استفتاحه بالدعاء الطويل كما في حديث علي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه استفتح الصلاة بقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنوبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ... ) إلى آخر الدعاء الطويل.

قالوا: إن الأفضل أن يبدأ به؛ لأنه أدعى لتهيئ النفس لصلاة الليل أكثر.

فلما فرغ عليه الصلاة والسلام وكان إذا فرغ من الركعتين صلى ثمان ركعات، يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، وكان يصليها عليه الصلاة والسلام فلا يجلس للتشهد إلا في آخر الأربع الركعات، أي: يصليها أربع متصلة وهذا جائز في النوافل، فأنت إذا أردت أن تصلي أربع ركعات إن شئت وصلت وإن شئت فصلت، إلا أن السنة في الوصل ألا تجلس للتشهد بينهما بين كل اثنتين من الركعات.

ثم قال: (فإذا انتهى عليه الصلاة والسلام من الأربع الأولى صلى بعدها أربعاً ثم أوتر عليه الصلاة والسلام).

وكان قيامه صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة وهي الثابتة في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة -ثم فصلت ذلك وقالت:- يصلي أربعاً لا تسألوا عن حسنهن وطولهن) وهذا يدل على طول القيام، واختلف العلماء رحمة الله عليهم في مسألة طول القيام وعدد الركعات.

فقال جمع من أهل العلم: الأفضل في صلاة الليل طول القيام مع قلة العدد بحيث لا يزيد على إحدى عشرة ركعة من ناحية الفضيلة لا سبيل الوجوب واللزوم، وهذا مذهب الجمهور: أن الأفضل في قيام الليل طول التلاوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فكان يصلي أربعاً لا تسألوا عن حسنهن وطولهن.

ومما يدل على رجحان هذا القول: ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل صلاة الليل.

فقال: (طول القنوت) أي: الأفضل فيها طول القنوت، يعني: القيام، ولذلك استدل به جمهور العلماء على أن الأفضل لك أن تطيل القراءة ويكون العدد بهذا الحساب الذي أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً لا فرضاً؛ أي: أنه على سبيل الفضيلة لا على سبيل الفريضة، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: إنه على سبيل الفضيلة -كما نص عليه في المجموع- وأنه لا يقصد منه أن من زاد عليه أو انتقص منه أنه لا يجوز؛ فنص على أنه ليس على سبيل اللزوم وإنما هو على سبيل الفضيلة.

وقال بعض العلماء: الأفضل أن يكثر من عدد الركعات ولو قل قيامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة مرافقته في الجنة قال: (أسألك مرافقتك في الجنة؟ فقال: أعني على نفسك بكثرة السجود) قالوا: فهذا يدل على أن الأفضل في صلاة الليل أن يكثر من السجود، وإذا أكثر السجود لا شك أنه سيخفف من قيامه حتى يكون العدد أكثر.

والذي يترجح هو القول الأول: أن الأفضل طول القنوت، ولذلك ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه (أنه قام مع النبي صلى الله عليه وسلم فأطال عليه الصلاة والسلام القراءة حتى هم عبد الله بأمر سوء قيل له: وما هممت؟ قال: هممت أن أتركه وأذهب) وهذا من طول قراءته عليه الصلاة والسلام.