للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لا بد بعد الإيمان من الابتلاء والتمحيص]

السؤال

فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، نرجو من فضيلتكم تفسير هذه الآية {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:١ - ٢]؟

الجواب

يقول الله تعالى: {الم} [العنكبوت:١] الله أعلم بالمراد بهذه الحروف، ذكر الله عز وجل هذه الحروف للعرب وهي تتكلم بلسانها؛ لكي يعجزهم ويقول: هذه الحروف من كلامكم، ولا يستطيع أحد أن يدرك حقيقتها إلا بوحي من الله جل وعلا، ولذلك نقول: الله أعلم بالمراد بقوله: {الم} [العنكبوت:١]، وكذلك قوله: {الر} [يونس:١]، وقوله: {المر} [الرعد:١] وقوله: {كهيعص} [مريم:١].

وأما قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ} [العنكبوت:٢] أي: أظن الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، فالناس لفظ عام يشمل المؤمنين والكافرين، ولكنَّ المراد بهذه الآية المؤمنين خاصةً لقوله بعد ذلك: {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:٢]، وقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:٢] أن يتركوا بدون تمحيص من الله، وابتلاءٍ واختبارٍ منه عز وجل، كلَّا.

{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:١٧٩] لابد من الامتحان، ولابد من الاختبار، ولابد من الابتلاء الذي يظهر به حال العبد، فهذه الفتن في قوله تعالى: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا)) [العنكبوت:٢] فدل على أن الإيمان قول باللسان كما أنه عقيدة في الجنان وعمل بالجوارح والأركان كذلك هو قول باللسان {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:٢] أي: لا يختبرون من الله عز وجل، فسبحان من يختبرهم! وطوبى لمن اختبر فنجح في اختباره مع ربه، فأظهر لله خلوص قلبه، وصدق إيمانه وصلاح قوله وعمله.

أما الفتن التي يفتن الله بها العبد فهي تنقسم إلى قسمين: فتن في دينه، وفتن في دنياه.

أما فتنه في دينه فهذه ترجع إلى ما يحدث من الشبهات والأذية؛ مثل ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من كلام كفار قريش لهم ومجادلتهم لهم ومعاداتهم لهم، كل ذلك من فتن الدين، أي: أن الله افتتنهم وامتحنهم بهذه الفتن؛ لكي يظهر صدق إيمان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتلاهم بالشدائد من فتن الدين، ولذلك لما جاء يوم الأحزاب قال الله عز وجل عنه: {إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:١٠ - ١١] معناه أنه إذا وجد الإيمان وجدت الزلزلة ووجد الابتلاء ووجد الاختبار والامتحان من الله عز وجل، فزلزل الله الصحابة زلزالاً شديداً، ولكنَّ هذا الزلزال أظهر كمال إيمانهم وكمال إحسانهم وصدق إنابتهم إلى الله سبحانه وتعالى {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:٢٢].

والله يبتليك في نفسك ببلايا الدنيا، فهي -أيضاً- من الفتن، يلتزم الإنسان بدين الله فإذا به يفتن في نفسه فيجد الهموم ويجد الضيق النفسي والقلق والألم والحيرة وكل ذلك؛ لكي يقول: يا ألله، لكي يقول: اللهم إني أرجو رحمتك، لكي يفر إلى الله، ويلتجأ إليه، فيعود هذا البلاء رفعةَ درجةٍ وخيراً له في دينه ودنياه وأخراه، يبتليه في جسده فيفقده السمع ويفقده البصر فيقول: الحمد لله، ما دام ديني سالماً فإنني بخير، قال بعض السلف: ما ابتلاني الله ببليلة إلا كان له عليَّ فيها ثلاث نعم.

الأولى: أنها لم تكن في ديني، والثانية: أنه لم يبتلني بما هو أعظم منها، والثالث: أنه رزقني الصبر عليها.

فلذلك يحمد الإنسان ربه ويسترجع فيصبح امتحان الله له وفتنته له دليلاً على إيمانه.

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:٢] لا والله بل إنهم يفتنون ويختبرون ويمتحنون من الله عز وجل؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة.

قال بعض العلماء: مثل الفتن والمحن لقلوب المؤمنين كالذهب، إذا حك ازداد لمعانه واشتد ضياؤه وحسن بهاؤه، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل وأن يلطف بنا وبكم في الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.