للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القيام بحقوق العلم]

أما الأمر الثاني فإن الله سبحانه وتعالى جعل للعلم حقوقاً عظيمة، من وفاها فإن الله سبحانه يبارك له في ذلك العلم.

ولن يستطيع طالب العلم أن ينال العلم؛ من وجهه إلا إذا أدى حقوق العلم؛ ولن يستطيع العالم أن يجد لذة علمه فيكون علماً نافعاً مباركاً فيه إلا إذا أدى الحقوق التي عليه، فالحق الذي على العالم هو أن ينصح للأمة، وأن يكون صادقاً مع الله جل جلاله، مشفقاً على الخلق، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم ملأ الله قلبه بالرحمة فكان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوفاً رحيماً صلى الله عليه وسلم، كان عليه الصلاة والسلام رحمة للناس، فإذا كان العالم قد سكنت الرحمة في قلبه، وعرف حقوق الناس عليه، بذل لهم هذا العلم، وضحى وقدم الغالي والرخيص، والمهجة والنفس والنفيس؛ من أجل مرضاة الله سبحانه وتعالى، إن العالم عليه حقٌ وهو أن يعلِّم الجاهل، وإذا وقف الجاهل على بابه وجب عليه أن يعلِّمه، وأن يرشده، وأن يدله، وأن يأخذ بمجامع قلبه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن كان مذنباً رغبه في التوبة والإنابة إلى الله، وإن كان مسيئاً رغبه في الإحسان وعمل أهل الإيمان حتى يفوز بالرحمة والجنان، وإن كان مخطئاً سدده وأرشده، ودله على ما فيه مرضاة الله جل جلاله.

إن العالم عليه أمانة عظيمة ومسئولية جليلة كريمة، أن يبذل كل ما يستطيع لتعليم الناس وتوجيههم، والله معه يسدده ويعينه ويوفقه، إن أهل الدنيا يعينون من وقف معهم في تجاراتهم وبيعهم وشرائهم فكيف بمن يتاجر مع الله، وابتغاء مرضاة الله.

قد يخرج العالم إلى درسه وموعظته مشتت الفكر من هموم الدنيا وأحزانها، ولكن الله يحبه ويحب علمه فيجمع الله له الأمر في قلبه، فيزيح عنه همه وغمه فيوفقه ويسدده، ومن نظر إلى أحوال العلماء وجد أن معهم من الله عوناً وظهيراً، وأن هذه العلوم والكتب والدروس والمواعظ وهذا الخير الكثير، لن يكون بحول أحدٍ ولا قوته كائنٌ من كان؛ إلا بحول الله وقوته سبحانه وتعالى.

العالم عليه أمانة عظيمة في توجيه الناس ودلالتهم للخير، وإن في قصص العلماء عظة وعبرة، خرجت ذات يوم مع الوالد رحمه الله برحمته الواسعة، بعد درسه بعد صلاة الظهر، وكان يوماً شديد الحر في الصيف، فاستوقفه رجلٌ من العامة وهو منهكٌ بعد درسه ما يقرب من ساعة إلا ربعاً في عز الظهيرة والشمس على رأسه والرجل يسأل ويناشده ويكرر المسألة، وهو يراوح بين القدم والأخرى، والله ما كهره ولا شتمه ولا طرده ولا مله ولا أشعره بالسآمة حتى قضى له جميع أمره، فانطلق الرجل وهو يثني ويبتهل إلى الله جل جلاله بالدعوات فلما ولى وانصرف كنت حديث السن قلت: يا أبي! إن هذا قد شق عليك -فضغط على يدي- وقال: والله يا بني لا يحل لي أن تبرح قدمي عن قدمه حتى أجيبه على سؤاله، إذا علم العالم أن الأمانة عظيمة والمسئولية كبيرة، بذل نفسه ووقته وعمره بالتجارة مع الله، فيسهر ليله وهو يعلم أن هذا السهر يخط في صحيفة عمله، ويضني جسده ويتعب فكره وهو يبحث عن المسائل، ويحل بإذن الله المعضلات والنوازل، والله يكتب أجرها لكي يراها أمام عينيه في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.