للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دواعي الفتور في العبادة]

بعد هذه المقدمة الضرورية وهي: أن الأمر والنهي في إمكان العبد، ف

السؤال

لماذا يفتر الناس بعد رمضان؟ لماذا يقبلون على الله في رمضان ثم يفترون بعد ذلك؟ إذا كانت المسألة عدم الجدية في العبادة فلقد رأيناهم يجدون، إذاً: بإمكانهم أن يجدوا في غير رمضان، إذ لو كانوا عجزة لما أتوا بهذا الجد في رمضان، فإذا كان بإمكانه أن يفعل فلماذا يحجم؟ لماذا هذا الفتور؟ في ليلة السابع والعشرين من رمضان وأنا ذاهب إلى المسجد في الساعة الواحدة لفت نظري هذا العام أن أغلب المساجد ملأى بالناس، وهذا ليس وقت سعي للعبادة، وليس وقت مكوث في المساجد، إذاً: لماذا عمّر الناس المساجد في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ طلباً لليلة القدر، إذاً: فالناس أذكياء! ويعرفون مصالحهم، ويقبلون إذا وجدوا الأجر، لذلك تركوا فرشهم الدافئة في هذا الشتاء وذهبوا إلى المساجد يصلون لله عز وجل، بينما ليلة ثماني وعشرين لا تجد أحداً في المساجد إلا العمّار الراتبون، ما معنى هذا الكلام؟ أيضحكون على الله؟ أول ما يظن أنه أخذ ليلة القدر يذهب لينام، لماذا هذا التفريط؟ إذاً: الناس تعرف دراسة الجدوى، يعرفون المكاسب والخسارة، لكن بكل أسف لم يحسبوها صحيحة هذه المرة.

إن الله تبارك وتعالى حي قيوم يقبل العمل، سواء عملته في الليل أو في النهار، عملته في رمضان أو عملته في شوال، فهو تبارك وتعالى قيوم {قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:٣٣]، وهو تبارك وتعالى يعاملنا بالفضل، فبرغم قصر أعمار هذه الأمة إلا أنها أكثر الأمم أجراً، فقصر أعمارها وبارك في أعمالها؛ حتى أن الحسنة الواحدة تضاعف إلى سبعمائة ضعف، وهذا لا نعلمه لأمة من الأمم قط إلا لأمة المسلمين، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، حتى إن العبد قد يفعل الشيء الذي لا يلتفت إليه فينجو به غداً؛ لأن الله عز وجل قبله منه، ومن الأدلة الكثيرة على ذلك قول الله تبارك وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:٣] وألف شهر تعني: (٨٣٨) سنة وبضعة أشهر وعدة أيام، فإذا قمت ليلة القدر وأصبتها فعلاً فقد أضيف إلى عمرك القصير ثمانون عاماً، فإذا سددك الله عز وجل وكل رمضان أدركت ليلة القدر -إذا قمت العشر الأواخر بجد واجتهاد- فكل سنة تعبد الله عز وجل فيها ثمانون عاماً محسوبة إلى عمرك، فإذا لقيت الله عز وجل تلقاه بعمر قد يصل إلى ألفين أو ثلاثة آلاف عام، فيكتب لك أجر عابد ثلاثة آلاف عام، وهذا لو قدرنا أن رجلاً منذ فرض عليه الصيام من سن الثامن عشر عاماً مثلاً ومات وهو ابن ستين سنة، وصام خمسة وأربعين رمضان، وأدرك في كل رمضان ليلة القدر، فإذا ضربت خمسة وأربعين في ثلاثة وثمانين يصبح معك أكثر من ثلاثة آلاف، فكأنك عبدت الله عز وجل أكثر من ثلاثة آلاف عام، برغم أن عمرك الفعلي لا يجاوز ثلاثين عاماً عند الله عز وجل، فالعمر الفعلي الذي تحاسب عليه أمام الله لا يتجاوز ثلاثين عاماً، إذا مت على رأس ستين سنة، وهذه هي دراسة الجدوى لعمر إنسان مات وسنه ستين سنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يتجاوز ذلك).

فلو قدرنا أن إنساناً يموت على رأس ستين عاماً، فهو لا يحاسب حتى يبلغ، والبلوغ قد يصل إلى خمسة عشر عاماً، ثم هو ينام ثمان ساعات في اليوم، إذاً: ثمان ساعات تطرح من ستين سنة تذهب عشرون سنة، تقضى في النوم وخمسة عشر سنة إلى سن البلوغ، وهذه خمسة وثلاثون سنة، فلو قدرت ساعات النوم أيضاً في البلوغ وتختصر خمس سنوات، إذاً: ثلاثون عاماً.

إذاً: رجل يموت وعمره ستون سنة يحاسب عند الله على ثلاثين عاماً فقط، فهل ثلاثون عاماً مهما فعلت فيها توصلك؟ لا توصلك.

ولو عمرت عمر نوح عليه السلام لا توصلك، ولو عمرت عمر إبليس الذي قال لله عز وجل: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:١٤]، فلو عمرت من أول ما خلق آدم إلى أن ينفخ في الصور فلن تدخل الجنة بعملك أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لن ينجي أحدكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

وهناك قصة ضعيفة الإسناد أذكرها على سبيل التقريب لا الاحتجاج، وقد ذكرها الحاكم في المستدرك مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: (أن عبداً عبد الله عز وجل في جزيرة ستمائة عام، فأنبت الله عز وجل له قحط رمان في الصخر، وأخرج له بقدر الإصبع عيناً عذبة من الماء المالح، فكان يأكل من الرمان ويشرب من الماء ويعبد الله، فسأل الله يوماً أن يقبضه وهو ساجد، فعندما جاء أجله قبضه الله وهو ساجد، ثم قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: يا رب بل بعملي! قال: برحمتي! قال: بل بعملي! فقال الله عز وجل: قايسوا نعمي على عبدي بعبادته -ومسألة القيامة مسألة موازين- فأتوا بنعمة البصر ووضعوها في كفة، ووضعوا عبادة ستمائة عام في كفة، فطاشت الستمائة عام في العبادة أمام نعمة البصر، فقال الله عز وجل: خذوه إلى النار، فجعل العبد يستجير ويستغيث ويقول: يا رب، أدخل الجنة برحمتك!! فقال: أوقفوه.

فوقف، قال: عبدي! من خلقك ولم تك شيئاً؟ برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من الذي أخرج لك قحط رمان في الصخر برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرج لك الماء العذب من الماء المالح، برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من قواك على عبادة ستمائة عام، برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: فبرحمتي أدخل الجنة، يا عبدي كنت نعم العبد)!! وهذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد إلا أن الأحاديث الصحيحة تنطق على مقتضاه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرته آنفاً: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا.

إلا أن يتغمدني الله برحمته).

فوضع الله عز وجل الآصار التي فرضها على بني إسرائيل عن هذه الأمة، كما قال الله عز وجل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:١٥٧] كان الواحد من بني إسرائيل إذا أصابه البول قرضه بالمقاريض، لا يكفي فيه الغسل ولا يطهره ماء، وإنما يقرضه بالمقاريض، ووضع الله عز وجل هذا الإصر عن هذه الأمة، بل إن الرجل إذا فقد الماء تيمم وصلى وأجزأته صلاته ولا يلزمه الإعادة، وإذا فقد الطهورين معاً صلى بلا وضوء ولا تيمم، وإذا قابله قاطع طريق فأخذ ثيابه كلها وتركه عارياً صلى عارياً وأجزأته صلاته، ولا تلزمه الإعادة، وهذا كله من التيسير الذي امتن الله عز وجل به على هذه الأمة.

حرم الله عز وجل على بني إسرائيل الطيبات: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:١٦٠] حرم عليهم الخبائث وحرم عليهم شطراً من الطيبات فضيق عليهم الحلال، فكان البحث عن الحلال في أيامهم في غاية المشقة، وهذه الأمة لطف الله عز وجل بها، ووضع الآصار التي وضعها على بني إسرائيل عن هذه الأمة.

إذاً: فالله عز وجل يعاملنا بالفضل، فما الذي غرك به وجعلك تُجبر عنه بعد رمضان؟ ألا يحصي عليك بعد رمضان، أو يغفل عنك فلا يراك؟!! لماذا نعامل الله عز وجل هذه المعاملة؟ ولماذا لا نقبل عليه دائماً في كل يوم وشهر؟ هذا عقوق لله عز وجل، وإن الكريم لا يجب عليك أن تعقه فهذا لؤم، ويوشك الله تبارك وتعالى أن يعاقب الذي حلم عليه كثيراً فلم يرجع.