للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرط الاستطاعة لامتثال الأمر والنهي]

من القواعد المقررة في ديننا قول الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨]، وقول الله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:٥ - ٦] فكل أمرٍ أمر الله عز وجل به عباده على سبيل الوجوب فبإمكانهم أن يفعلوه، وكل نهي نهاهم عنه فبإمكانهم أن ينتهوا عنه، فليس هناك أمر فوق مقدور العبد أبداً: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:٧] وليس هناك نهي يعجز العبد عن فعله قط، وهذا شيء مؤكد لا يختلف فيه اثنان قط، والأمر والنهي معاً يشكلان العبادة مع توحيد الله عز وجل، فالعبادة: هي التوحيد، ومقتضى هذا التوحيد من الأمر والنهي، فمن لم يأت بالعبادة -التوحيد ومقتضاه- فإنه لم يعبد الله عز وجل، إذ إن الله قد خلق الخلق ليعبدوه؛ كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] في الرحلة إلى الله أكثر من مركب يُمتطى، فهناك من يمتطي مركب الرجاء، وهناك من يمتطي مركب الخوف، وأعظم الواصلين إلى الله عز وجل هم الذين يمتطون مطية المحبة إليه تبارك وتعالى، فلا تكلف أبداً مع المحبة.

فهذه العبادة التي أمرنا بها الله عز وجل يجب علينا أن نأتي بها في مكاننا، فإن عجزنا فإلى مكان آخر، لم يخلقك الله تبارك وتعالى لتكون عابداً له في بلدك، بل لو اقتضى الأمر أن تخرج من بلدك ومن أهلك ومن مالك لتحقق العبادة وجب عليك ذلك، فإن لم تفعل ولم تأت ما أمرت به فالله تبارك وتعالى يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:٥٦ - ٥٧] إنما ذكر الموت بعد السياحة في البلدان طلباً للعبادة، كأنه يريد أن يقول لك: كن عبداً لله ومت حيث شئت، المهم أن تحقق العبودية لله، فلا يشترط أن تموت بأرضك وبين أهلك وخلانك: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:٥٧] وذكر هذا بعد قوله تبارك وتعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:٥٦] أي: حقق العبادة حيثما كنت.

وقد رأيت وأنا أقرأ ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه حقق هذا المعنى، فأيام كان طليقاً كان يدعو إلى الله عز وجل ويواجه الفرق المبتدعة، وفعل هذا الرجل بالمبتدعة ما لم تفعله كتائب من العلماء، فلما سجن وجد المسجونين يلعبون ويلهون، ويقضون أوقاتهم في العبث، فأنكر عليهم ذلك أشد الإنكار، وقام فيهم بما يجب أن يقوم به العالم، فجمعهم على الصلاة، وأمهم، وشرع يعطي دروس العلم في التفسير والحديث والفقه، فاجتمع المسجونون عليه حتى ذكر الذين ترجموه أن كثيراً من المسجونين لما جاءهم الإفراج أبوا أن يخرجوا، وخرج من بين هؤلاء المسجونين علماء، فهذا الرجل قام بحق العبودية حتى وهو في السجن، فلا يضرك أين ذهبت، المهم أن تكون عبداً لله عز وجل.