للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جوانب الضعف المادي عند المسلمين في بدر]

الذي يدرس تضاريس الأرض يرى أن العدوة الدنيا كانت رمالاً رخوة، تسيخ الأقدام فيها ولا تثبت الأرجل عليها، بخلاف العدوة القصوى فإنها صخر، الواقف عليها متمكن يستطيع أن يكر ويفر ويرجع ويقدم، بخلاف العدوة الدنيا التي هي عبارة عن أرض رملية لا يستطيع المرء أن يجري فيها ولا يكر ولا يفر.

ثم هناك عامل آخر يدعو أهل مكة إلى الثبات: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال:٤٢] ذلك أن أبا سفيان لما علم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه أخذ ساحل البحر هارباً.

(الركب أسفل منكم) أي: أنه خلف ظهور المكيين القرشيين الذين خرجوا بطراً، وهذا حافز لأن يقاتلوا أشد القتال دفاعاً عن التجارة والأموال التي خلف ظهورهم.

وكان من عادة العرب أنهم يأخذون النساء ويأخذون الأموال حال الحرب؛ ليكون ذلك باعثاً على ثباتهم، فيقاتل الواحد منهم دون امرأته أو دون أخته أو دون أمه، ويفضل أن يقتل ولا ينال أمه ولا أخته ولا امرأته ولا ابنته ولا إحدى حريمه سوء، إذاً: كان هناك حافز لأن يثبتوا، ذلك أن الركب - وهي العير- كانت خلف ظهورهم، وهم إنما خرجوا نجدة للعير، فلا يتصور أن يتركوها.

فانظر إلى هذا الذي تسمعه، وذكره رب العالمين تبارك وتعالى من تباين الأرض التي يقفون عليها! ولذلك امتن الله عز وجل على المؤمنين وهو يقول لهم: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:١١]، لما نزل المطر جعل هذا الرمل الرخو صلباً تحت الأقدام؛ لأن الله عز وجل هو الذي تولاهم بلطفه وعنايته، قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:١٠] عزيز لا يغلب، حكيم في نصر الفئة المؤمنة برغم قلة الإمكانات.

خرجوا من ديارهم ثلاثمائة وتسعة عشر نفراً كما رواه مسلم في صحيحه، وخرجوا -كما تعلمون- لا لقتال، ولم يكن معهم غير فرسين اثنين، وقرابة أربعين أو خمسين بعيراً، كان الثلاثة يعتقبون البعير الواحد، في حين أن قريشاً خرجت تريد القتال، وقد استعدت وأخذت أهبة استعدادها، والأرض في صالحهم، والكثرة في صالحهم، والعتاد في صالحهم، لكن الذي رجح كفة الفئة المؤمنة هو التضرع لله والتذلل، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، لم يغمض له جفن، ظل طول الليل يدعو الله تبارك وتعالى، ويمرغ خديه على عتبة عبوديته، وهو يقول: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، وقضى ليلته يمرغ خديه على عتبة عبوديته تبارك وتعالى، فقال الله عز وجل: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:١٢]، لأنه لا قيمة لجهد الملائكة ولا لجهد البشر ما لم يكن مكللاً بعناية الله عز وجل.

فانظر أخي: هل يهزم طائفة فيها هؤلاء المؤمنون، وفيها هؤلاء الملائكة، ويظاهرهم رب العالمين تبارك وتعالى؟! لا يهزمون أبداً، فئة مؤمنة تحققت فيها صفات خمسة قضى الله عز وجل أن هؤلاء هم المؤمنون حقاً.