للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المسلمون بين عز الماضي وضعف الحاضر]

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا لله الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أيها الإخوة: هذا التباين الواضح الجلي بين صفات الطائفة القليلة المؤمنة، وبين صفات الطائفة الكافرة الكثيرة، يدعونا إلى النظر مرة أخرى في محاولة الخروج من هذا التيه الذي يعيش المسلمون فيه منذ قرون.

بعد انتصار محمد الفاتح رحمه الله وفتح القسطنطينية، وهزيمة المسيحية شر هزيمة على يد المسلمين، بدأ النصارى وأهل المسيحية الشمالية في أوروبا يلمون شعث تفرقهم، واستعانوا في هذا الرجوع بعلمائهم القساوسة، اجتمعوا مع ملوك هذه الأمة وقالوا: كيف الخروج من هذا التيه بعد أن حاقت بهم الهزيمة، وانتصر المسلمون نصراً مظفراً؟ اتفقوا جميعاً، وكان رأيهم كلمة إجماع، أن ينزلوا عند قول علمائهم، اتفق القسُس على أن أعظم مواطن النصر للمسلمين هو كتابهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فعملوا في محاور عديدة: محور إغراق المسلمين بالشهوات، ومحور غسيل الدماغ لمن يذهب من المسلمين إلى بلاد الكافرين، وجعلوا لهم عيوناً في بلاد المسلمين يستقطبون الذين يظهر عليهم النجابة والذكاء، فيأخذونهم إلى بلادهم، ثم يعمل له عملية غسيل مخ حتى يستخدمه فيما بعد.

تقرأ كلام المستشرقين في القرآن فترى كلام رجل منصف، لا يتهجم على القرآن، ولا يقول إن هذا الكتاب فيه تخريف، ولا يقول ليس من عند الله، بل يقول: هو من عند الله وهو الكتاب المقدس، ولكن يأخذ الآيات ويبدأ يحرف هذه الآيات.

الذين تولوا الجامعة عندنا قديماً، والذين أنشئوا بعض الكليات الخطيرة تعرضوا لعملية غسيل الدماغ: رفاعة رافع الطهطاوي، هذا غُسل مخه وذاب.

وهذا أبو التعليم الدكتور طه حسين رجل يأخذ الدكتوراه في اللغة العربية من باريس لماذا؟ ما الذي جرى في الدنيا؟ لماذا لم يأخذها من ديار المسلمين الذين هم أهل اللغة العربية أصلاً؟ أخذ هناك الدكتوراه ورجع، ولما رجع زوجه عميد الجامعة ابنته الوحيدة لماذا؟ ألجماله، أم لخضار عيونه؟ لا، ابنته الوحيدة يزوجها له لأنه رسم له لوحة، رجل تكلم في الشعر الجاهلي قبل أن يذهب إلى باريس والعلماء كفروه، لما قال: إن دعوى أن قريشاً هي التي بنت الكعبة هذه من أساطير الأولين، ودعوى أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذين بنيا الكعبة من الأساطير أساطير؟! والرجل حفظ القرآن في كتاب القرية، ودخل الأزهر، ولم يقرع سمعه قط: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:١٢٧] لم يقرأ هذه الآية من سورة البقرة؟ ثم يأتي يقول: دعوى إبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا الكعبة من الأساطير؟!! لأجل هذا لم يتردد العلماء في تكفيره، ولكن الرجل أظهر التوبة، ثم ذهب إلى هناك ورجع بدماغ آخر غير الدماغ الذي خرج به، وبدأ هؤلاء يفتعلون صدمات أدبية، ويثيرون النقع والغبار على آيات القرآن والسنة.

هو هذا الذي قرر علماء المسيحية الشمالية أن يدخلوا على المسلمين منه، وبدءوا يستحوذون على تراث هذه الأمة، ألا وهي المخطوطات، ونحن أمة عظيمة لم تخدم أمة من الأمم من لدن آدم عليه السلام إلى اللحظة التي أتكلم فيها -سنة ألف وأربع مائة وواحد وعشرين هجرية- لم تخدم أمة من الأمم دينها كما خدمت أمة الإسلام دينها.

إنك لو وضعت الكتب التي صنفت في معرفة كلام الله ورسوله كتاباً جنب كتاب لغطت الكرة الأرضية! إن الذي طبع وهو بمئات الألوف بل بالملايين لا يساوي ثلث الذي لم يطبع ولم ير النور؛ كل هذا صيانة لكلام الله ورسوله.

فنظر هؤلاء وقالوا: لو استحوذنا على تراثهم واستلبناه منهم وأخذناه، لحلنا بينهم وبين دينهم، ينشأ الناشئ فيهم واهي الدين، ليس له صلة قوية بتراثه، وكلما فقد هذا التراث ومع مغايرة الخصم ومشقة القراءة، مع طول الزمن ستنفصم العرى بينهم وبين تراث دينهم، فلا يعرفون شيئاً عن مراد الله ولا عن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولذلك لما جاء نابليون إلى مصر سرقوا مخطوطاتنا من المكتبة الأزهرية وغيرها، وذهبوا إلى فرنسا وأنشئوا مكتبة من أكبر المكتبات العربية في العالم في فرنسا هناك! ولا تجد بلداً من البلاد إلا وفيها مكتبة إلى خمسة وعشرين مكتبة في البلد الواحد، كلها تعج بتراث المسلمين.

في نفس الوقت بدءوا -كما قلت لكم- يقرءون الشبهات في كتب المسلمين، وكم بذل هؤلاء القسس من الجهد في فهم اللغة العربية، مع أن اللغة العربية من أصعب اللغات، وفهم اللغة العربية يحتاج إلى تدريب وممارسة في غاية الجدية، فتخيل أن رجلاً إنجليزياً أو رجلاً فرنسياً أو أسبانياً أو أية جنسية من الجنسيات، عكف على قراءة أصول اللغة العربية، واستطاعوا في خلال عشر سنوات أو عشرين سنة أن يوجدوا كوادر محترفة تقرأ في كتب المسلمين وتفهم كتب المسلمين، هؤلاء بذلوا جهداً خارقاً وحبسوا أنفسهم، وكانوا يبنون الأديرة في قلب الصحراء حتى يجبروا أنفسهم على العزلة، يريد أن يعتزل فيضطر أن يحلق شعره كله، لماذا يحلق شعره؟ من أجل مصلحته، شكله صار قبيحاً، فيجبر نفسه على العزلة، هؤلاء ذهبوا إلى الأديرة التي هي في فيافي الصحراء، وحرموا أنفسهم من متع الحياة ومباهجها، لأنهم ما كانوا يرون إلا تأثيل مجد المسيحية.

وهكذا ينبغي علينا إذا كنا نريد أن نصل حقاً، ونبين أو نظهر للناس علامة جدنا؛ أن يظهر العلماء مرة أخرى؛ وألا ينفصل السلطان عن العلماء، إن العلماء هم الناصحون، لكن الحاكم يقرب لاعبي الكرة، والممثلين والمغنيين والله لو ظللنا نهتف ونصرخ إلى أن نموت، فإننا لن نحرر شبراً واحداً من الأرض السليبة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منا وما بطن والإثم والبغي بغير الحق اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.