للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حفظ الله لأوليائه]

رجعت هاجر إلى ابنها وعاشت وحدها، تشرب من السقاء الذي تركه إبراهيم عليه السلام، وتأكل من جراب التمر حتى نفد الماء، وعطشت وعطش الصبي وجعل يتلمظ من أثر التمر ولا ماء، فكرهت أن تراه وهو يموت، فذهبت فكان أقرب شيء إليها الصفا، فصعدت الصفا فلم تر أحداً وانحدرت تجري حتى صعدت المروة، تبحث في كل هذا عن ماء، فلم تر أحداً، وسعت سبع مرات، وهكذا يسعى الناس بين الصفا والمروة، وكانت تسعى سعي الإنسان المجهود، والمسافة بين الصفا والمروة حوالي أربعمائة وخمسين متراً.

وهي تقطع هذه المسافة وتجري تبحث عن ماء.

وبعد أن سعت كل هذا السعي، فإذا بها تسمع شيئاً، فقالت: صهٍ -لنفسها- تقول لنفسها: قد أسمعت لو كان عندك غواث، أي: لو كان شيء يغيثني فضرب جبريل عليه السلام بجناحه الأرض، فخرج الماء من زمزم، فأول ما رأتها تفور، جعلت تحوضها.

أي: تعمل حولها حوضاً بقصد أن تحفظ الماء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركتها، لكانت عيناً معيناً).

انظر: ماء زمزم من أيام إبراهيم عليه السلام والناس يشربون ويتوضئون ويغتسلون ويرسلون إلى كل مكان وهي لا زالت عيناً، فكيف لو لم تحوضها، إذاً: لملأت الدنيا، فذهبت هاجر إلى رضيعها إسماعيل فإذا بها تجد أنه قد رضع وأكل وشرب وارتوى، وأن الذي غذاه هو جبريل عليه السلام.

وهذا درس نستفيده: أن الله عز وجل لا يترك أولياءه يتخطفون في الأرض، لكنه يبتليهم وتكون العاقبة لهم.

وهذا الكلام موجه لكل رجل مبتلى، لكل رجلٍِ فارٍ في أنحاء الأرض بدينه، لاسيما إذا كان أهله معه أيضاً، فإن الله عز وجل لا يضيع هؤلاء، فكل الأنبياء والصالحين، الذين فروا بدينهم إلى الله عز وجل مكن الله لهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى ثم تكون العاقبة لنا).

وقد يقول قائل: لماذا أناط الله البلاء بالأولياء وهم أكرم عليه من أعدائه؟ أي: الأنبياء يبتلون وكذا الأولياء، وأعداؤهم -أعداء الله- لهم الدولة والقوة، وهم الذين شردوا المؤمنين، والله قادر على أن يمكن لأوليائه الكل، فلم أعطى الله الدولة لأعدائهم وأناط البلاء بهم؟ فتقول: العبد يوزن عند الله يوم القيامة بقلبه لا بجسمه، فسلامة قلبك عند الله عز وجل مقدمةٌ على سلامة جوارحك، يبتليك في جوارحك، ويحفظ لك قلبك وهذه رحمة منه جل وعلا.

قال إبراهيم عليه السلام: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٧ - ٨٩].

فالقلب يستمد حياته من المحن ومن العواصف، وتجد أن أضعف الناس قلوباً هم أهل الترف، لكن أهل البلاء هم أقوى الناس قلوباً، فلذلك أناط الله البلاء بأوليائه؛ حتى يلقوا الله عز وجل بقلب سليم.

والجارحة تستمد قوتها من القلب.

فهذا أيوب عليه السلام مرض ثمانية عشر عاماً حتى رفضه القريب والبعيد، لكن قلبه كان سليماً وما ضره ما فاته من الجارحة.