للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دور المرأة الصالحة الزاهدة في صلاح البيت وسعادة الرجل]

وانقضت الأيام ومرت الشهور والأعوام وجاء إبراهيم عليه السلام من الشام لينظر ماذا فعلت المرأة والولد فوجد هاجر قد ماتت، وسأل عن بيت إسماعيل، فدلوه عليه، فدخل وقال لزوجته: أنت زوجة إسماعيل؟! قالت: نعم.

فقال: أين إسماعيل؟ قالت: خرج يبتغي لنا، -أي: يطلب المعاش- فقال: كيف حالكم؟ قالت: في كرب وظنك وشدة، والله المستعان، وقعدت المرأة تشتكي له.

فقال لها: إذا أتى فقولي له: إن أباك يسلم عليك، ويقول لك: غير عتبة بابك.

فمضى إبراهيم عليه السلام، وجاء إسماعيل عليه السلام وأول ما دخل البيت آنس شيئاً -هذه لغة القلوب يحس أن هناك شيئاً، فهذا يعقوب عليه السلام كما قال الله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:٩٤ - ٩٦]- فسأل إسماعيل عليه السلام: هل جاء أحد؟ قالت: نعم.

جاء رجل، قال: ما صفته؟ قالت: رجلٌ وضيء، صفته كذا وكذا.

قال: هذا أبي، فهل أوصاك بشيء، قالت: يقرئك السلام، ويقول لك: غير عتبة دارك، -هي لا تعلم معنى عتبة الدار، فهي تقولها بسلامة نية، وربما لو كانت عرفت أنه يقول له غيِّر عتبة دارك يعني: طلق زوجتك، ربما كتمت هذا الكلام- فقال: هذا أبي وأمرني أن أطلقك فالحقي بأهلكِ.

ونستفيد من هذا فائدتين: الأولى: أن المرأة هي زينة البيت، وعتبته، -والعتبة كناية عن الباب- فهي التي تحفظ البيت، وتدبر المعاش، فإذا كانت المرأة خائنة، ومسرفة، أشقت الرجل غاية الشقاء.

الثانية: أنه لا ينبغي للمرأة أن تشكو من زوجها ولا تفضحه أمام أحد ولو كان أقرب الأقربين، ولا تشتكي أنها لا تأكل ما تريد، وأن مرتبه ودخله ضعيف، وأنه لا يستطيع أن ينفق عليها، فليس هذا من وفاء المرأة، والرجل دائماً يحب المرأة الوفية التي تستر عليه، ولا تكشف عيبه ولا عجزه، ويحفظ لها الجميل.

وأنا أعرف رجلاً غنياً من أعيان الجيزة في مصر كان يبكي على امرأته لما ماتت بكاءً شديداً، وأصبره وأقول له اصبر واحتسب، -لأنه كان يبكي بصوت عالٍ- فقال لي: ومن أين لي بمثل هذه المرأة؟ وبدأ يحكي طرفاً من حياته معها، فقال: تزوجتها وليس لي في الأرض شيء، كنت عامل بناء، أعمل مع مقاول، فلما رأى المقاول فيَّ الأمانة والجد، جعلني رئيس العمال، ثم زوجني ابنته هذه، قال: فتزوجتها فكانت نعم الزوجة، كنت فقيراً وكنا نذهب كل خميس وجمعة، لزيارة والد المرأة، وكان بعد صلاة الجمعة يعمل مأدبة ويتوسع فيها، يقول: فكنت آكل، ولكن زوجتي لم تكن تأكل، فيقول لها والدها: كلي، فتقول: يا أبي! فلان هذا كل يوم يأتي لنا بمثل هذا، وهي لم تأكل من ذلك شيئاً، وإنما تظهر هذا التعفف، لكي لا تفضح زوجها ولا يظهر بأنه أقل من أبيها.

فالمرأة لا ينبغي أن تفضح زوجها وتشوه سمعته، وليس هذا من خلق المرأة الوفية، المرأة عتبة الباب، وعتبة الدار هي محل اعتناء واهتمام، فإذا أغلق الباب بإحكام أمنا على ما في الدار، فكذلك إذا كانت المرأة أمينة أمن الرجل على ماله وعرضه.

ولذلك إبراهيم عليه السلام، عندما جاء وسأل زوجة ولده فتبرمت واشتكت الضيق والشدة.

إن المرأة غير الوفية لا تستحق الحياة مع هذا الرجل، والرجل يتخذ قراراً حاسماً، إذا كانت المرأة تشقيه ويئس من إصلاحها، بشرط أن يكون قام بحق القوامة عليها، كما هو حال إسماعيل عليه السلام، عندما استمع وصية أبيه وطلق زوجته.

وفي الصحيح: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لابنه عبد الله بن عمر: طلق امرأتك، قال: لا أطلقها.

إني أحبها، فشكاه عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني قلت له: طلق المرأة فأبى وقال: أنا أحبها.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله! أطع أباك، فطلقها عبد الله بن عمر).

قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس كل الناس عمر؛ لأن عمر بن الخطاب عندما يقول: طلق المرأة، إنما يقول ذلك لأمرٍ ديني شرعي، كما قال إبراهيم عليه السلام لابنه وعمر بن الخطاب لا يمكن أن تكون المرأة صالحة، تقية، وفية، مطيعة لزوجها ويأمر بطلاقه فلهذا السبب فإن هذا الحديث ليس عاماً، فإذا أمرك أبوك لغير أمرٍ شرعي أن تطلق زوجتك فلا طاعة له.

وبعد أن طلق إسماعيل عليه السلام زوجته عملاً بوصية والده، تزوج امرأة أخرى من جرهم وعاش معهم، ومضت الأيام والأعوام وجاء إبراهيم عليه السلام يسأل عن ولده، فدخل بيت إسماعيل، فوجد امرأته فسلم وقال: أين إسماعيل؟ قالت: خرج يبتغي لنا.

فقال: كيف حالكم؟ فأثنت على الله عز وجل، وحمدته وقالت: بخير حال.

فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم.

فقال: ما شرابكم؟ قالت: الماء.

فدعا إبراهيم عليه السلام لهم باللحم والماء، ولو كان في مكة حب وزرع آنذاك لدعا لهم إبراهيم بالبركة بالحب والزرع أيضاً، ولذلك تجد اللحم والماء والبركة في مكة، وتجد فيها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، كما قال تبارك وتعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:٥٧]، كل الثمرة الموجودة في الدنيا تجبى إلى مكة تحقيقاً لدعاء إبراهيم عليه السلام.

فلما وجد إبراهيم عليه السلام المرأة تثني على الله تبارك وتعالى بما هو أهله، وتحمده تبارك وتعالى وتثني على زوجها، قال لها: أقرئيه السلام وقولي له: إن أباك يقول لك: ثبت عتبة دارك، فجاء إسماعيل، وكأنما آنس شيئاً فسأل: هل جاءكم من أحدٍ؟ فقالت: نعم.

جاء رجل.

فقال: ما صفته؟ قالت: كان رجلاً وضيئاً، ومن وصفته كذا وكذا.

فقال: بما أوصاك؟ قالت: أن أقرئك السلام، ويقول لك: ثبت عتبة دارك، فقال: إن أبي يأمرني أن أمسكك.