للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مفهوم حديث: (الدعاء هو العبادة)]

السؤال

هل حديث: (الدعاء هو العبادة) يفسر قوله تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)؟

الجواب

نعم حديث: (الدعاء هو العبادة) ترجمة لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:٦٠] أي: يستكبرون عن دعائي، فالدعاء هو: التضرع والانكسار بين يدي الله عز وجل وهذا هو حقيقة العبودية، معنى (عبد) يعني: مذلل، فلا يكون العبد عبداً إلا إذا كان ذليلاً، ولذلك قال العلماء وهم يتكلمون في مقامات التوبة قالوا: أيهما أفضل: التائب من المعصية أم الذي لم يرتكب معصية؟ فمع ترجيحهم أن الذي لم يرتكب معصية أصلاً هو أفضل، قالوا: ولكن الذي ارتكب معصية فتاب عنده عبودية ليست موجودة عند الذي لم يعص الله عز وجل وهي عبودية الذل والانكسار، فإن العبد إذا وضع ذنبه أمامه فلا يزال يخاف أن يرديه، وكلما زاد يقين العبد خاف من ذنبه، كما حدث للأنبياء في ساعة المحشر، يأتي الناس آدم فيقول: (نفسي نفسي، إن الله أمرني أن لا آكل من الشجرة فأكلت، فيذهبون إلى نوح فيقول: نفسي نفسي، إني كانت لي دعوة فدعوتها، فيذهبون إلى إبراهيم، فيذكر كذباته الثلاث، فيذهبون إلى موسى فيذكر وكزته للرجل الذي قتله، فيأتون إلى عيسى عليه السلام، فكلٌ يقول: نفسي نفسي، ولم يذكر ذنباً، حتى يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيقول: أنا لها! أنا لها) كما في حديث الشفاعة الطويل.

فهاهم الأنبياء المقدمون على أقوامهم يذكرون ذنبهم، فكذلك إذا رسخ إيمان العبد عظم عنده الذنب العظيم، كما روى الترمذي وغيره وهو في البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (وإن الفاجر ليعمل الذنب العظيم، فيرى كأنه ذباب نزل على وجه، فقال به هكذا، فطار) أما المؤمن فيعمل الذنب، فيرى أنه كجبل يكاد أن يسقط على رأسه، فيبين خوف المؤمن أما الكافر فيفعل الذنب العظيم جداً ويرى هذا الذنب كذبابة حطت على وجهه فقال هكذا فطارت.

وجاء عن السلف قولهم: (رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً)، فالإنسان قد يفعل الطاعة فيعجب بها ويظن أنه فعل شيئاً ذا بال، فلا يزال يظن هكذا حتى يرديه الله تبارك وتعالى، ورب معصية يفعلها العبد ستأخذ بطريقه إلى الجنة، فكلما ذكر المعصية؛ جد واجتهد، خوفاً من الله تبارك وتعالى.

ولا يفهم من هذا أن المعصية أفضل من الطاعة، كما قال بعض المتصوفة لما جاء في كلمة السلف: (ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً) قالوا: وفي هذا دلالة على أن الذنب أحياناً يكون أفضل من الطاعة، وهذا تفكير مقلوب؛ لأنه لا يمكن أن يقول قائل: إن الذنب أفضل من الطاعة أبداً، لكن تأثير الذنب على العبد المؤمن يكون إيجابياً كما يقول العلماء في استثمار الصفات السلبية، فمثلاً هناك بعض الناس تجد عنده إحباطاً شديداً، لا يأكل ولا يشرب، وكل يوم يضعف جسمه، يقول: كلما تذكرت القبر وعذاب القبر والوحدة والغربة وإلى أين يصير، لا يستطيع أن يأكل ولا يشرب، وتجده لا يصلي ولا يذهب إلى المسجد، بل غالق على نفسه الغرفة، وإن هذا يدمر نفسه، والمفروض أن يكون استثمار الخوف استثماراً إيجابياً، كلما خاف جد واجتهد، لا أن يقعد، فكذلك الذنب لابد للعبد أن يستثمره، أنه يجعله رائداً بين يديه إلى الله تبارك وتعالى.

فالدعاء أصله الانكسار، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يغضب على ابن آدم إذا لم يسأله) الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب والله أعلم.