للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بيننا وبين الصحابة في الاختلاف]

الصحابة الأوائل كانوا يختلفون عن هؤلاء اختلافاً كبيراً، لذلك فنحن نشبه بُعْدَ المسلمين عن تطبيق الإسلام بمثلث حاد الزاوية، النقطة لا أبعاد فيها، مثل إذا وضعت نقطاً برأس القلم فليس فيها طول ولا عرض، وإن كان فيها أبعاد فهي أبعاد قصيرة جداً لا تكاد تذكر، فلو قلنا: هذه النقطة هي العهد النبوي، كانوا كلهم شيئاً واحداً، حتى لو حدث خلاف فهذا الخلاف ينتهي بسرعة؛ لأن الصحابة ما كانوا يقصدون الخلاف ولا يتعبدون به، إنما الخلاف شيء طارئ رغماً عنهم، حدث بسبب اختلاف وجهات النظر، ولكنهم كانوا يرجعون بسرعة إذا ظهر الحق.

كما في الصحيحين (أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما اختلفا في شيء، وكان في أبي بكر رضي الله عنه حدة، فكأنما احتد على عمر، فرجع أبو بكر فقال لـ عمر: اغفر لي.

فقال: لا أغفر لك.

فانصرف أبو بكر وندم عمر أن أبا بكر قال: اغفر لي، قال: لا أغفر لك، فذهب إلى بيت أبي بكر فلم يجده، ف أبو بكر كان قد توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد رفع شيئاً من ثوبه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما صاحبكم هذا فقد غامر -يشير إلى أن هيئة أبي بكر هيئة غير عادية- فجاء وقال: يا رسول الله! اختلفت مع عمر في شيء من الحديث، فقلت له: اغفر لي.

قال: لا أغفر لك.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً، فقعد، -فلما سأل عنه عمر فلم يجده توجه إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام- فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام تغير وجهه، وقال له ولهم جميعاً: جئتكم فقلتم لي: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت! وواساني بماله ومنعتموني! فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟)، قال: فما أوذي بعدها.

الآن يختلف بعض الإخوة مع أخيه في مسألة فرعية، فتراه يترك المسجد الذي يصلي فيه مع أخيه، وإذا رآه قادماً من طريق أخذ في طريق آخر، وإذا ذُكِرَ أخوه ذمه، وقد ينهشه لماذا؟ لأنه مختلف معه، تراه يراقبه في صلاته: هل يحرك الإصبع أم يشير بها؟ هل يشير أم يرفع عند النفي والإثبات؟! هل يقبض بعد القيام من الركوع الثاني أم يرسل، قضايا فرعية يتعاملون فيها كالقضايا الأصولية، وهذه مصيبة عظيمة! إن الدافع هو جهل أولئك بالخلاف وأدب الخلاف وأدبه، كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون في المسائل العظيمة، وأظن خلافهم في اختيار الخليفة بعد النبي عليه الصلاة والسلام في سقيفة بني ساعدة مشهوراً، وكان كفيلاً بتدمير الدعوة، لأنه كان من الأنصار من هو مصر على -بلغة العصر- أن يرشح نفسه بمقابل أبي بكر الصديق، أو في مقابل المهاجرين، حتى قال قائلهم: (منا أمير ومنكم أمير)، وأصروا على ذلك في بداية الأمر، ولكن لأن الله تبارك وتعالى يعلم أنهم أخلصوا دينهم لله، وأنهم لا يتعبدون بالخلاف ولا يختارونه، فأصلح ذات بينهم، وزال الخلاف، فلما قضي الأمر لم تجدهم يعترضون على اختيار أبي بكر خليفة، ويقول: لا، أنا معترض، وهذه وجهة نظري.

الآن لو حدث كمثل الأمثلة التي ضربتها لا يتحمل الناس بعضهم بعضاً فيها، هؤلاء لم يتحمل بعضهم بعضاً في القضايا الفرعية فكيف بالقضايا الأصولية؟! وفي حديث عبد الله بن مسعود لما أتم عثمان في منى أربعاً، وهو في الصحيحين، لكن الجملة التي أريدها في سنن أبي داود، وفي مسند الإمام أحمد: (لما بلغ ذلك عبد الله بن مسعود أن عثمان يتم استرجع).

وفي مسند الإمام أحمد بسند فيه ضعف: (أن أبا ذر لما بلغه ذلك حوقل واسترجع أن يتم أربعاً) ولكن لما أقيمت الصلاة قاموا يصلون خلفه أربعاً، قيل لـ عبد الله بن مسعود في ذلك قال: (الخلاف شر).

لأن الخلاف الذي ينتج عنه خروج عبد الله بن مسعود على عثمان بن عفان، مع أن عثمان اجتهد في هذه المسألة، فأداه اجتهاده إلى ذلك ووافقته عائشة عليه، فإنه أعظم ألف مرة من المصلحة الحادثة التي يحصلها من لا يصلي خلف عثمان أربعاً، أيختلفون بين يدي الله في مناسك الحج؟ أهذا هو الفقه؟! فعندنا مثلاً المفتي لما يرى أن هلال رمضان لم يره، بينما في بلد مجاور لنا رأوا الهلال، فيقول هذا المفتي: إن لكل بلد رؤية خاصة، وهذان قولان معروفان عند أهل العلم: اختلاف المطالع واتحادها، وإن كان الراجح اتحاد المطالع، لكن الرأي الآخر قال به علماء، واختاره هذا المفتي، فلا نخالفه في هذا الأمر لعموم البلوى بالمخالفة، حدث عندنا في حلوان منذ أربع سنوات: أن السعودية رأت الهلال قبلنا بيوم، وصادف -ولعلكم تذكرون- العيد يوم الجمعة، فبعض الذين لا يتبعون المفتي بعد صلاة الجمعة وقف على المنبر وأخذ ماءً وشرب، بينما هذا اليوم كان هو المتمم لرمضان عندنا، الناس جميعاً صُوَّم، وهذا وقف على المنبر وشرب، وقال: اليوم يوم العيد ولا يحل صيام يوم العيد! لقد حدث خلاف كادت أن تطير فيه رقاب، ما هي المصلحة؟ وهل هناك مصلحة أن يذهب أناس يصلون العيد وإخوانهم في نفس البلد يتمون صيام رمضان؟! إذا كان من المسائل التي رجح بها القائلون باتحاد المطالع، قالوا: إذا اجتمعت الأمة المسلمة على يوم عيد واحد وعلى يوم صوم واحد، فهذا أدعى أن يحس بعضهم ببعض، فلا شك أن أهل البلد الواحد أكثر إحساساً بهذا الأمر من أهل البلدان المتفرقة، يعني: إذا كان العيد في تلك البلاد، ونحن لا زلنا صائمين، فإننا لا نحس أن هناك مخالفاً؛ لأننا جميعاً صُوَّم، إنما إذا كنا في البلد الواحد وأقوام يصلون العيد، وأقوام يتمون صوم رمضان! هذا بلا شك من الجهل، كما قال بعض العلماء: لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف.

فالصحابة الأوائل كان عندهم من فقه النفس وفقه الأحكام الشرعية ما يعقلهم من مثل هذا الزلل الذي يقع فيه كثير من الشباب اليوم، أضف إلى ذلك الإخلاص، يوجد الآن أقوام يتعبدون بالخلاف، وهذه مصيبة كبيرة، بل بدعة قبيحة جداً، أن يتعبد عبد بالخلاف.