للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قيام الليل والتضرع إلى الله راحة وطمأنينة]

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:٦٤] فانظر إلى هذا العجب (يبيتون سجداً وقياماً) ولفظة (بات) إذا جاءت مطلقة فهذا يعني: النوم والراحة، أي: الاستغراق في النوم والغياب عن الوعي، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في وضوئه، فإنه لا يدري أين باتت يده) والحديث هذا مختص بالماء الموضوع في الأواني.

فإذا استيقظت من النوم فلا تضع يدك في الماء.

ولكن خذ في إناء صغير، واغسل يدك ثلاث مرات بالكامل، ثم ضع يدك في الماء قال صلى الله عليه وسلم: (فإنك لا تدري أين باتت يدك) والعلماء قالوا: لاحتمال أن تمر اليد على موضع النجاسة فتحمل النجاسة وأنت لا تدري.

إذاً: قد تمر اليد على محل النجاسة وأنت لا تدري، لأنك: نائم، غائب عن الوعي، ولذلك جاءت لفظة (باتت) مطلقة، بخلاف ما إذا كانت مقيدة، فإنها قد تأتي مقيدة وتدل على أنك سهران لم تنم، كأن تقول مثلاً: بات فلان لا يكتحل بنوم فهذا يدل على أنه سهران، ولكنها هنا مطلقة فتعني: النوم الاستغراقي.

(والذين يبيتون) جاءت مطلقة.

أي: أنه نائم، فكيف يستقيم ذلك مع قوله (سجداً وقياماً) وهذا يدل على السهر؟ نقول: اعلم -يا عبد الله- أن راحة المؤمن ليست في النوم بل راحة المؤمن أن يصف قدميه بين يدي من يحب، فكأنما قال: هو في حال قيامه وسجوده مستريح كالذي ينام تماماً، وراحته في الركوع والسجود، ولذلك اللفظ (يبيتون) يعني: مستريحون، لا ضجر عندهم من الصلاة بالليل، وهو يعلم أن الله عز وجل يضحك له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليضحك) وضحك ربنا على حقيقته، يضحك؛ لكن كما يليق بجلاله، لا تقل لي: يضحك كضحك عباده بقههقة، وله لسان وشفتان ونحو ذلك، لا، الله عز وجل (ليس كمثله شيء)، لكنه يضحك على الحقيقة وليس مجازاً: كناية عن الرضا، والسرور، والقبول لا.

يضحك ربنا على الحقيقة، لكن لو سألتني كيف يضحك؟ أقول لك: لا أدري، فالكيف محجوب عنا، لكننا نثبت لله ما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم له، إنما الرضا والقبول يكون له أثر صفة.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليضحك إلى عبد كان في رفقة يمشون بالليل، وكان النوم أحب شيء إليهم، فعرجوا -ضربوا الخيام، والنوم أحب شيء إلى هؤلاء الرفقة، من شدة الإعياء والتعب، إلا أن هذا العبد لم يستطع أن ينام فقام فتوضأ فصلى لربه ركعتين) قبل أن ينام صلى لمحبوبه، والله عز وجل هو الذي ينزع التعب عنه، والله عز جل يبارك له في نومه، ويذهب عنه التعب، ولذلك كان قتادة يقول: (اللهم اكفنا من النوم باليسير).

لكن انفعنا بهذا النوم.

فهذا الرجل قبل أن ينام قدم هواه لمحبوبه على هواه لنفسه، فقام يتملق ربه بركعتين، ولا ينتفع بنزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا كل ليلة إلا الركع السجود في صلاة الليل، في جوف الليل الآخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربنا يمهل حتى الثلث الأخير من الليل، فينزل فينادي عباده: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه) فلا يدعو إلا المستيقظ آنذاك، والنائم لا تسمع نومه، إلا شخيره وهذا لا ينتفع بنزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا، بخلاف هؤلاء الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً.

إذاً: السجود والقيام ليس مشقة، بل هو راحة وطمأنينة.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة لنا زيادة في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.