للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[هل لقاتل المؤمن توبة؟]

هذا الرجل قتل تسعاً وتسعين نفساً، ارتكب أعظم الجرائم بعد الشرك وهو: قتل النفس، ولعظم هذه الجريمة يكون (أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء) كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين، ولعظم هذه الجريمة تنازع فيها الفقهاء: هل لقاتل المؤمن توبة أم لا؟ والقاعدة المعروفة تقول: (إن لحوق الوعيد مشروط بعدم التوبة) أي ذنب له توبة بدءاً من الشرك إلى أقل ذنب، ومع ثبوت هذا الأصل عند العلماء تنازعوا هل لقاتل المؤمن توبة أم لا؟ هذا يشعرك بعظم هذه الجريمة الكبيرة، فكان ابن عباس رضي الله عنهما وزيد بن ثابت وإحدى الروايات عن أبي هريرة يقولون: (ليس لقاتل المؤمن توبة) كما جاء في البخاري قال سعيد بن جبير: تنازع أهل الكوفة هل لقاتل المؤمن توبة أم لا؟ فرحلت إلى ابن عباس فقال لي: لا.

ثم قال: إن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان ولم ينسخها شيء.

ولكن صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أفتى بأن قاتل المؤمن له توبة، كما في الأدب المفرد للإمام البخاري بسند صحيح عن عطاء بن يسار قال: (كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، ثم خطبت غيري فغرت عليها فقتلتها، ألي توبة؟ قال له: أمك حية؟ قال: لا.

قال: اذهب وتب إلى الله وتقرب إليه ما استطعت.

قال: فلما مضى الرجل قلت لـ ابن عباس: لماذا سألته عن حياة أمه؟ قال: ما أعلم شيئاً يقرب إلى الله مثل بر الوالدة).

فهذه الرواية صحيحة عن ابن عباس أنه يرى أن قاتل المؤمن له توبة، ويبدو لي أن ابن عباس رضي الله عنهما كانت فتواه تتغير على حسب الحالة، فقد صح بسند قوي أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال له: (ألقاتل المؤمن توبة؟ قال له: لا.

فلما مضى الرجل قال له أصحابه: أولم تفتنا أن قاتل المؤمن له توبة؟ قال: نعم، ولكني رأيت في عينيه الشر)، فهو يريد أن يعلم أن له توبة، فيقتل، ثم يتوب، فلاحظ ابن عباس هذا فيه، ولذلك كان من الأصول التي ذكرها أهل العلم في الكتب وصنفوها في أدب الفتوى والمفتي والمستفتي: (أنه يجوز للمفتي أن يفتي بالأشد إن كان له وجه في الدليل مراعاة لحال المستفتي): وليس هذا من التلاعب كما يظن بعض الناس، لأنه لابد أن يكون للفتوى وجه في الدليل.

والمفتي العاقل هو الذي ينزل الفتوى على حال المستفتي، مثال هذا في العصر الحاضر: ما أفتى به فضيلة الشيخ محمد صالح العثيمين فيما يتعلق بالنقاب، فتوى الشيخ خرجت مجملة هكذا: (إن النقاب لا يجوز) النقاب: هو البرقع، وابن عثيمين يرى السدل من شعر الرأس إلى أخمص القدم، يقول: (وقد كان هذا البرقع موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكني اليوم لا أرى جوازه) فبعض الناس طار بها وقال: إن الشيخ يحرم النقاب.

الحقيقة: أن الفتوى إنما تنزل على ما يفعله بعض النساء في المملكة، كانت تنزل من البرقع قليلاً وترفع الرأس قليلاً وإذا بنصف وجهها يظهر.

فالمفتي إذا كانت الفتوى عنده مقيدة بشروط فعلم أنه إذا أطلق الجواز بالشروط أخذ الناس الفتوى بغير شروط جاز له أن يغلق الباب، وتكلم العلماء في أدب الفتوى والمفتي والمستفتي على هذا بكلام طويل جداً ونفيس، لعلنا نتعرض له بشيء يسير عند مناسبته في هذا الحديث إن شاء الله تعالى.

فالحاصل: أن أهل العلم لما اختلفوا في مسألة توبة القاتل فهذا يدل على عظمها، كيف لا وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣] فجمع عليه خمس عقوبات.

والصحيح عند أهل العلم أنه لا يوجد ناسخ ومنسوخ بين آية النساء وبين آية الفرقان: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا *

الجواب

=٦٠٠٢٩٢٤> إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:٦٨ - ٧٠] فقال العلماء: يحمل المطلق على المقيد هنا.

إذاً الجمع بين الآيتين: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣]، {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:٧٠] إذاً تفهم الآيتان بهذا، وهذا هو الذي اختاره جماعة من أهل العلم منهم القرطبي وغيره.

فهذا الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً أذن الله تبارك وتعالى له بتوبة، كيف لا وذنبك مهما عظم شيء ورحمة الله وسعت كل شيء؟! ولذلك لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون حقاً، وجاء في الحديث الصحيح: (خلق الله الرحمة مائة جزء، فأنزل على الأرض جزءاً واحداً يتراحم منه الخلائق، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) بجزء واحد من الرحمة، فإذا يئس العبد من مائة جزء من الرحمة لا يكون مؤمناً أبداً.