للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم تحريك الإصبع في التشهد للصلاة]

السؤال

هذا سائل يسأل عن تحريك الإصبع في التشهد، هل هو شاذ أو ليس بشاذ؟ لأن هناك كتاباً جديداً اسمه (البشارة بنفي التحريك وثبوت الإشارة) قال فيه: (إن الصواب أن المصلي إذا تشهد أنه يشير بإصبعه إلى القبلة ولا يحركها) ذكر أحاديث وآثاراً في ذلك.

والشيخ الألباني رحمه الله ذكر في كتابه (الصلاة) وفي غيره من الكتب -تمام المنة فيما أظن- أن تحريك الإصبع هو الراجح، فيقول: إن الذين صرحوا بالإشارة يقولون: إن التحريك شاذ، فهل دعوى الشذوذ صحيحة؟

الجواب

اعتقاد الشيء فرع عن تصوره، نعرف أولاً الشاذ كقاعدة، ثم نفرع على هذه القاعدة.

التعريف المختار للحديث الشاذ هو ما عرفه الإمام الشافعي رحمه الله قال: (ليس الشاذ من الروايات أن يروي الراوي ما لم يروه غيره، بل الشاذ: أن يخالف الراوي غيره) إذاً لابد في الشذوذ من ثبوت المخالفة.

أي أنواع المخالفة التي يعنيها الإمام الشافعي؟ هي المخالفة التي يتعذر معها الجمع، فإذا أمكن الجمع بين الأدلة زال الخلاف وقلنا: لا يكون ذلك من الشاذ.

إذاً: لا يكفي الفصل في الحديث الشاذ الاقتصار على أصول الحديث فقط، بل لابد من دراسة مبحث التعارض والترجيح على الأقل في أصول الفقه، ولا يتم التوفيق بين الروايات إلا إذا أتقنا مبحث التعارض والترجيح.

نأتي على تحريك الإصبع أهو شاذ أم لا؟ الإمام الشافعي قال: (ليس الشاذ من الروايات أن يروي الراوي ما لم يروه غيره) قد تروي شيئاً لا يرويه غيرك ولا يكون شاذاً، تكون تلك زيادة ثقة، زيادة حفظ منك، فنأتي لنرى هذه المسألة الحديث الذي ورد في هذه المسألة في السنن حديث وائل بن حجر يرويه زائدة بن قدامة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه عن وائل بن حجر: فذكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: (وكان ينصب يده يحركها).

قالوا: إن جمعاً من أصحاب عاصم بن كليب ذكروا هذا الحديث ولم يذكروا ما ذكره زائدة، وهم اثنا عشر راوياً -تقريباً- من الثقات اجتمعوا في الرواية عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر فقالوا: (يشير بإصبعه) وزائدة بن قدامة وحده قال: (يحرك) فقالوا: هذا شذوذ.

نقول: لا، لابد من ثبوت المخالفة حتى نسمي الحديث شاذاً، فهل هناك مخالفة بين الحديثين أم لا؟ الجواب: لا مخالفة؛ لأن الإشارة تجامع التحريك غالباًَ، كأن يقال لك مثلاً: أين محمد؟ فتقول: هو ذاك، فأنت لم تحرك ولم تقل له: هو ذاك فقط، وإنما قلت: هو ذاك وأشرت، ولكن الإشارة تجامع التحريك غالباً، إذ لا تفهم الإشارة غالباً إلا بتحريك وإلا كانت الإشارة عارية، لا تستطيع أن تفهم ماذا يريد هذا الإنسان، فإذا كانت الإشارة تجامع التحريك غالباً فما هو المانع أن يحفظ زائدة بن قدامة صفة فهم حفظوا الإشارة وهو زاد التحريك.

إذاً: زائدة بن قدامة -لاسيما وهو ثقة ثبت صاحب سنة، ليس عليه مظنة أبداً، قال ابن حبان: (كان من الثقات المتقنين، كان يعيد السماع ثلاث مرات) فإذا سمع حديثاً لا يسمعه مرة واحدة إنما يسمعه ثلاث مرات- إذا جاز أن تقول: هذه زيادة شاذة فأرني من الذي تقبل زيادته إن ردت زيادة زائدة؟!! ومثال هذا ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء رحراح -أرجو أن ينتبه الإخوة لكلمة (رحراح) - فوضع يده على فم الإناء، وقال: توضئوا باسم الله) إلى آخر الحديث المشهور.

روى هذا الحديث جماعة من الثقات نحو ستة: عن حماد بن زيد، عن ثابت بن أسلم البناني، عن أنس بن مالك فقالوا: (بإناء رحراح)، وخالفهم أحمد بن عبدة الضبي في هذه الكلمة، فروى هذا الحديث عن حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء زجاج) إذاً الجماعة قالوا: (بإناء رحراح) وأحمد بن عبدة قال: (بإناء زجاج).

ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح قال: (حكم جماعة من الحذاق بأن أحمد بن عبدة صحفها) انقلب عليه: (رحراح) قلبها (زجاج).

ابن خزيمة الذي روى رواية أحمد بن عبدة ما تبنى هذا، بل بنى فقه الباب على هذا الحرف، فقال رحمه الله: (باب إباحة الوضوء بآنية الزجاج، والرد على المتصوفة الذين يزعمون أن هذا إسراف، إذ الخزف أبقى وأصلب).

أي: افرض أن هذا الإناء وقع منك وانكسر، ستشتري غيره، بينما لو كان حديداً سواء وقع أو لم يقع لا ينكسر، إنما هذا إسراف لأنه معرض للكسر، فالإمام ابن خزيمة رد عليهم بهذا الحرف، ثم روى الحديث ثم قال بعد ذكر الحديث: ورواه جماعة عن حماد بن زيد فقالوا: (رحراح) مكان (زجاج) ثم قال -وهذا هو الفقه، وابن خزيمة رحمه الله كان من الأئمة القلائل الجامعين بين الفقه والحديث؛ ولذلك كانوا يسمونه بإمام الأئمة-: و (الرحراح) هو الواسع من آنية الزجاج لا العميق منه.

فوفق بين الروايتين، فهو إناء رحراح من زجاج، فـ أحمد بن عبدة ذكر جنسه وهم ذكروا صفته، فأين التعارض بين الروايتين؟! ومعلوم من أصول العلماء: أن حمل قول العالم أو روايته على ما لا يخالف الدليل أولى من رده، فإذا كان الجمع لائقاً فهو الواجب، ولا يلجأ إلى الترجيح إلا إذا تعذر الجمع فيه.

كذلك مسألة الإشارة والتحريك، هو ذكر صفة الإشارة وهي التحريك، وهذه زيادة منه فلابد أن تقبل.

فالذين يقولون: إن رواية زائدة بن قدامة شاذة لم يصيبوا؛ لأنه لم تتحقق المخالفة، بل الجمع ممكن، والحقيقة هناك مدرسة موجودة تتبنى مثل هذا، وأحدثت شراً مستطيراً في الكتب، فلا يرون رجلاً خالف رجلين إلا حكموا على الرجل بالشذوذ مباشرةً! وهذا ليس من تصرف العلماء الجهابذة.

ومبحث (الشاذ) من أدق المباحث في علم الحديث وأعرقها، لذلك قلما تعرض عالم بتصنيف للتفريق ما بين الشذوذ ومابين زيادة الثقة لماذا؟ لأنه ليس له قاعدة، إنما تعتمد على إتقان العالم للأصول، ثم كثرة ممارسته التي سماها علماء الحديث بالذوق.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا وإياكم ما ينفعنا، ونسأل الله عز وجل أن يتجاوز بها عنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.