للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم إطلاق اللحية في الشرع]

السؤال

أنا شاب التزمت قريباً، وأطلقت لحيتي، وطال جدال بيني وبين والدي وإخوتي، فهم يقولون: اللحية لا ضرورة لها الآن، وأهم شيء القلب، ويقولون لي: ليست اللحية واجبة، وليس عندي من المعلومات الشيء الكثير لمناقشتهم، فأرجو أن تفصل هذا الأمر؛ لأنه مهم جداً بالنسبة لي حتى أقنعهم؟

الجواب

الحقيقية أن الذي يزعجني قول بعض الناس للذي يطلق لحيته، مثلاً: هل صنعت كل شيء من الواجبات فما بقي إلا اللحية؟! فيهونون عليه هذا الحكم.

إذا نظرنا إلى الدين بهذه الصورة فلن يفعل أحد قط شيئاً من الخير، فمثلاً: سرت في الشارع ووجدت زجاجة مكسورة يمكن أن تجرح إنساناً ما، فأخذتها ووضعتها بجانب الطريق، فيأتيني رجل يقول لي: هل فعلت كل شيء إلا حمل الزجاجة من على الأرض؟ هل يستقيم هذا الكلام؟! وهل العبادات بعضها مترتب على بعض بحيث إذا لم تفعل هذه لا يحل لك أن تفعل الأخرى؟! بل الرسول عليه الصلاة والسلام يقول -كما في الصحيحين -: (إن امرأة بغياً من بني إسرائيل -بغياً: أي: تتاجر بعرضها- رأت غصن شوك من على الأرض فحملته فنحته جانباً، فشكر الله لها؛ فغفر لها).

أنت لا تدري ما يقبل من عملك؛ لذلك لا تكف عن فعل الخير أبداً، الزجاجة التي تحملها عن الأرض لعل الله عز وجل يكفر عنك ذنوبك كلها بهذه الزجاجة، فهذه الزجاجة قد تكون عند الله عز وجل أفضل من قيامك وصيامك، وأنت لا تدري، وهذا ليس تهويناً للصيام والقيام، هل أنت تتصور أنه ورد لك في النصوص -إذا لم تكن تعلم هذا النص- أن غصن شوك يسقط ذنب امرأة تاجرت بعرضها، وزنت وغصن شوك يسقط كل هذه الجرائم من على أكتافها؟! أنت لا علم عندك علم بالذي يتقبل من أعمالك، أحياناً قد تعمل عملاً وتتصور أنه أجل عمل عملته ولا تؤجر عليه، وتعمل عملاً آخر وليس عندك اهتمام كبير به فالله عز وجل يغفر لك به.

اللحية ليست كما يظن كثير من الناس أنها مستحبة، بل هي واجبة، والفرض والواجب عند جماهير العلماء واحد.

لماذا هو فرض؟ نقول: إن الأوامر ثلاثة أقسام: الواجب، والمستحب، والمباح.

والمباح: يعتبر أمراً من جهة الصيغة -وهناك خلاف بين العلماء هل المباح أمر أم لا- كأن أتكلم على جهة الصيغة الآن، فالأوامر إما أن تكون من الأعلى للأسفل، أو من الأسفل للأعلى، أو من النظير للنظير.

فالأوامر من الأعلى للأسفل تفيد الإلزام، ومن الأسفل للأعلى تفيد التوسل والرجاء، والنظير للنظير تفيد الطلب، فإذا قال الله عز وجل لنا: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:٣١].

(تب): فعل أمر من أعلى، أي: لا خيار لك في الترك، لابد أن تفعل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيث ما كنت) فعل أمر، يبقى هذا يفيد الإلزام.

مثال الأمر من أسفل للأعلى: أنت تقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي (اغفر): فعل أمر، لكن هل أنت تأمره؟ لا، أنت تتوسل إليه.

والأمر من النظير للنظير: أقران أنداد فأحدهم يقول للآخر: افعل كذا هذا على سبيل الطلب وليس على سبيل الإلزام.

هذه حقيقة الأمر! فالعلماء يقولون: الأمر المجرد عن القرائن يفيد الوجوب إلا أن تأتي قرينة تصرفه عن الوجوب، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (اعفوا اللحى) (ارخوا اللحى) (وفروا اللحى) وفي لفظ آخر: (ارجوا اللحى).

أما (اعفوا) فهو من تمام الترك، تترك اللحية حتى تكثر، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:٩٥]، (حتى عفوا): أي كثروا.

و (ارجوا اللحى): من قول الله عز وجل: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:١٠٦]، أي: متروكون، أي: أتركوها.

و (فروا اللحى): من التوفير.

فكل هذه الأوامر معناها: تمام الترك.

القرينة التي تصرف هذه الأوامر مثل أن يأتي رجل قد حلق لحيته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيرحب به النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، وهذه قرينة تدل على أن الأمر لا يفيد الوجوب؛ لأنه لو كان واجباً لكان النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه، وقال له: لماذا حلقت لحيتك، فإن اللحية فرض؟ أما إذا لم ينكر عليه وهو لا يقر على الباطل، إذاً: هذا يدل على أن اللحية ليست واجبة، وإنما هي مستحبة، إذا فعلتها تثاب عليها وإذا لم تفعلها لا تعاقب.

فهل ثبت أن أحداً من الصحابة حلق لحيته فسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه؟ الجواب: لا، أبداً.

هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق لحيته؟ لا.

لم يثبت شيء من هذا إطلاقاً.

والعلماء يقولون: يبقى الأمر على حالته الأولى، وهو أنه يفيد الوجوب.

فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما يقول: (اعفوا اللحى وقصوا الشارب، وخالفوا اليهود والنصارى) ولكن هنا شبهة سمعتها من أستاذ في قسم الحديث، عندما كانوا يستقدمونه في ندوة عن الرأي التي كان يرد فيها على الشباب، فقال: بل لو قلت: إن حلق اللحية هو السنة لما أبعدت.

لماذا يا فلان؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خالفوا اليهود والنصارى) والقساوسة والحاخامات ملتحون مربون لحاهم، فالمفروض أنا حتى أخالف هؤلاء أحلق لحيتي.

فهل هذا الكلام صحيح؟ لا؛ لأن لفظ اليهود والنصارى اسم جنس محلى بالألف واللام يشمل جميع اليهود والنصارى، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: وخالفوا القساوسة والحاخامات، إنما قال: (خالفوا اليهود والنصارى).

فالنصارى الموجودون أكثر من مليار مثلاً، واليهود الموجودون افترض أن عددهم خمسة عشر مليون يهودي على وجه الأرض.

كم واحد ملتحٍ في النصارى؟ لا تكاد تجد نصرانياً يعفي لحيته إلا القسيسون الكبار، فأنت لو وجدت قساً شاباً أعفى لحيته اعرف أن هذا متعصب لدينه جداً، لأن اللحية غير معروفة في القسيسين أنفسهم إلا في كبار السن.

ولو سلمنا أن كل القسيسين أعفوا لحاهم كم تكون نسبتهم إلى العدد الكلي؟ لا يشكلون أية نسبة مئوية مذكورة، يبقى هل لا يزال النصارى يحلقون لحاهم أم لا؟ الجواب: نعم لازالوا.

لازال اليهود يحلقون لحاهم أم لا؟ نعم لازالوا؛ لأن هذا اسم جنس يشمل كل يهودي على وجه الأرض، ويشمل كل نصراني على وجه الأرض.

ولو سلمنا أن كل النصارى على وجه الأرض أعفوا لحاهم، وكذلك كل اليهود أعفوا لحاهم، فما موقفنا؟ هل نحلق لحانا مخالفة لهم عندما أجمعوا جميعاً على إعفاء اللحية؟ الجواب: لا، لأن إعفاء اللحية من سنن الفطرة، التي هي القدر المشترك في كل دين لا يتغير: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:٣٠]، فالفطرة هي جملة من الأوامر الثابتة التي لا تتغير من شريعة إلى شريعة، ولا من قول إلى قول.

فهم إذا تركوا لحاهم فلم يحلقوها فقد سلمت فطرتهم في هذه الجزئية، ونحن أيضاً مأمورون أن لا نحلق لحانا لماذا؟ لأنها من سنن الفطرة كما في صحيح مسلم رحمه الله.

إذاً: على أي محور لا يحل لمسلم أن يحلق لحيته، أضف إلى ذلك أن اللحية هي شعار المسلم الظاهر، فأنت عندما تمشي في الشارع هل تستطيع أن تميز بين المسلم وغير المسلم؟ لا تستطيع، اختلطت الأزياء والأشكال، حتى ذاب المسلم في وسط الكافر.

فهذا كمال أتاتورك ألغى الخلافة الإسلامية في تركيا، ومن جملة ما فرضه على الناس (القبعة) وهي خاصة بالإنجليز وشعارهم، فأول ما فرض القبعة قام علماء الدين جمعياً وقالوا: لا يجوز، فبدءوا يقبضون عليهم ويحاكمونهم ويعدمونهم، فكان ممن أعدم في هذه الآونة رجل عالم، أصدروا عليه حكم الإعدام، لكن قالوا: لكي نبين أننا أناس ديمقراطيون، فسنرتب له محاكمة هزلية وندينه، ثم نقرأ عليه حكم الإعدام، لأننا لو أعدمناه مباشرة سيبقى بطلاً، فنحن لكي نفوت عليه البطولة ولا يبقى رمزاً ندينه أولاً ثم بعد ذلك نعدمه.

جاء القاضي وقال له: عجباً لكم يا علماء الدين! ما أتفهكم! هذه العمامة التي تلبسها إذا جعلتها على رأسك قلتم: مشروعة، وإذا استبدلتها (برنيطة) قلتم: غير مشروعة، ما هو الفرق بينهما وهذا قماش وهذا قماش؟ قال العالم: أيها القاضي! إنك تحكم علي وخلفك علم تركيا، فهل تستطيع أن تستبدله بعلم إنجلترا وهذا قماش وهذا قماش؟ فبهت، لكنه نفذ عليه حكم الإعدام أيضاً.

عندما يلبس الشخص (القبعة) القضية أن هذا شعار لا ينبغي أن يرتديه المسلم، فعندما يجد الشخص أولاداً يلبسون ملابس رياضية عليها علم أمريكا، وأحياناً عليه علم إسرائيل، نجمة داود على صدر الولد، فالولد هو يرفع شعاراً لعدوه على صدره يحمله، وهو لا يدري بل هو غافل! فاختلطت أزياء المسلمين بالكافرين، تمشي في الشارع لا تستطيع أن تقول: هذا مسلم وهذا كافر أبداً، لكن إذا رأيت رجلاً أعفى لحيته ويمشي في الشارع أنت تقول: هذا مسلم.

اللحية إعلان للهوية، أضف إلى ذلك أن غياب اللحية أضاع علينا أحكاماً أخرى مرتبطة باللحية، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

فإذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا، فقال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام) والحديث الأول يقول: إن إفشاء السلام مستلزم لوجود المحبة المستلزمة للإيمان، قال: (أفشوا السلام بينكم) فكيف أفشي السلام وأنا لا أستطيع أن أميز المسلم من غير المسلم؟ وأنا منهي أن ألقي السلام على الكافر -اليهود والنصارى-؟ فبهذه الطريقة أنا لا أستطيع أن ألقي السلام، فضاع علينا شيء عظيم.

كذلك المسلم له حقوق على المسلم لا يأخذها الكافر، فمثلاً: تشميت العاطس، ففي سنن أبي داود أن اليهود كانوا يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم النبي صلى الله علي