للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأمر بإنزال الناس منازلهم واللطف بهم في الدعوة]

قوله عليه الصلاة والسلام في الكتاب الذي أرسله إلى هرقل: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم) لما ذكر نفسه نسبها إلى العبودية، ولما ذكر هرقل نسبه إلى العظمة؛ لأن هرقل رجل كافر، وهو يدعوه ويتألف قلبه، فلهذا لابد أن ينزله منزلته: (أنزلوا الناس منازلهم).

يا أيها الدعاة إلى الله تبارك وتعالى! إننا خسرنا كثيراً بإهمالنا لهذا الأصل، فقد يذهب أحدنا إلى قرية أو قبيلة للدعوة، فيعترض عليه رجل من كبار القبيلة، وهو أجهل من أبي جهل، فالواجب عليك ألا تحمل عليه بالكلام، لأن خسارتك لهذا الرجل خسارة كبيرة؛ لأنه قد يمنعك من دخول القبيلة أو القرية، فتحرم من دعوة أهل هذه القرية، أنا لا أقول لك: أقره على باطله، وليس هذا هو لازم القول، لكن أقول لك: استخدم القول اللين في توصيل الحق ولا تسكت عن باطل.

يعني مثلاً: جاء رجل إلى محمد بن سيرين، وقال له: رأيت أن أسناني سقطت، فذهبت إلى فلان فقال لي: إن أولادك سيموتون، فأحزنني ذلك، قال له: بل سيبارك الله لك في عمرك حتى تكون آخر أهلك موتاً، فالتعبير نفس التعبير لكن اختلفت الصيغة؛ لأنه إذا كان آخر أهله موتاً، فهذا يعني أن أولاده سيموتون قبله.

وبعض الناس يرتاح عندما تخبره بأشياء تسره حتى وإن لم تكن صحيحة لكنه يرتاح لمثل هذا الكلام.

رجل عظيم في بلد من البلدان، وهو رجل فاسق، وأنا أريد أن أدخل هذا البلد، ما المانع أن أقول له: سمعتك سبقتك، والحقيقة أنت مشهور جداً، وكنت أتمنى أن أراك، وأنت أقررت باطلاً في المسألة هذه؟ وأدخلت في الدين ما ليس منه؟ وأخرجت من الدين ما هو منه؟ فسيتصور الرجل أن هذا كله مدح.

وكان أحدهم في أيام التعذيب قد عذبه الجلاد أشد التعذيب -نسأل الله العافية- وبعد أن أكمل تعذيبه قال له: ادع لي، فقال له: الله يعينك ويحميك.

(يعينك) يعني: يطردك، و (يحميك) يعني: يحميك بالنار، فالجلاد اعتقد أن معنى (يحميك) من الحماية، يعني: يحرسك.

وسمعت شخصاً يقول لرجل: أنت من الأكابر، فأنكر عليه أحدهم، وقال له: الأكابر هم المجرمون، فقال له: ليس الأكابر الذين نعرفهم؟ فالإنسان يتلطف في هؤلاء الناس.

فالنبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل بالرسالة، ما قال: إلى الكافر بن الكافر هرقل؛ لأن هذا نوع استعداء، لكن قال: (إلى هرقل عظيم الروم) وهو فعلاً عظيم الروم، وقد نسب نفسه عليه الصلاة والسلام بمقتضى ما عنده من الإيمان للعبودية؛ لأنها أشرف صفة يوصف بها العبد، كما قال بعض العلماء في قوله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:١] قالوا: لو كانت هناك صفة أشرف من صفة العبودية لنسبه إليها؛ لأن هذه من أشرف الليالي، فوضع نفسه تواضعاً لله تبارك وتعالى، كما ثبت في مسند مالك وأحمد وغيرهما: (أن جبريل عليه السلام كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعوا صوت باب يفتح من السماء، فقال جبريل: يا رسول الله! أو لا تدري ما هذا؟ قال: لا، قال: هذا باب ما فتح قبل اليوم، ولا يفتح بعد اليوم) نزل منه ملك، هذا الملك نزل لتخيير النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربك يخيرك، ملكاً رسولاً أجعلك، أم عبداً رسولاً؟ قال: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل يستشيره، فأشار إليه: أن تواضع لربك، فقال: بل عبداً رسولاً) هذا هو الشرف؛ فالإنسان الذي ينسب نفسه للعبودية يعلو: (كفى شرفاً أن أكون لك عبداً، وكفى لي عزاً أن تكون لي رباً).