للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأعمش يعلم طلابه الأخلاق والأدب]

لو أخذنا رجلاً عالماً جليلاً كبيراً وهو سليمان بن مهران الأعمش أحد الأئمة الكبار القراء الحفاظ -حفاظ أهل الكوفة- هو شيخ شعبة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وغيرهم من الأئمة الثقات الكبار.

كان عنده من شدة الخلق على تلاميذه شيئاً يضرب به المثل، حتى حكى الخطيب في كتاب (شرف أصحاب الحديث) أنه كان عسراً جداً في الرواية، ولا يكاد يحدث بحديث، مع أن طلاب العلم عندهم نهم، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اثنان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) فكان طالب العلم لا يشبع، لاسيما عند الثقة الحافظ الإمام؛ فإنه شرف كبير أن يروي حديثاً عن الأعمش وأن يتسند له.

فكانوا يتهافتون عليه تهافت الفَراش على النار، وكان هو شديد الامتناع في التحديث، فكل يوم يذهب أصحاب الحديث بكراريسهم ومحابرهم بالمئات يقرعون عليه الباب ويدخلون، فلما ضاق بهم ذرعاً اشترى لهم كلباً، فكلما سمع وقع أقدام أطلق الكلب لكي يفرق هذا الجمع، ونرجو أن تتصورا رجلاً كـ شعبة يجري أمام الكلب! أتظن أن شعبة زهد في الأعمش لا سيما أنه كان يماثله مئات في ديار المسلمين؟ أبداً، ما كانوا يزهدون في هؤلاء الأئمة؛ لأنهم ربوا على الأدب، يطلق عليهم الكلب، وبعد أن يؤدي الكلب مهمته يرجع والأعمش جذلان -مسرور- فيعودون مرة أخرى فيطلق عليهم الكلب.

وذات يوم جاء أصحاب الحديث بكراريسهم ومحابرهم وقرعوا الباب، فإذا الكلب غير موجود، فدخلوا على الأعمش دخول المنتصر، فوجدوه يبكي! فقالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟! فقال لهم: لقد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، اقعدوا أحدثكم، فحدثهم يومئذٍ بحديث -بحديث واحد- وخرجوا كأظفر ما يكون، كأنه رجل فتح حصناً؛ لأنه أخذ حديثاً من الأعمش.

وذات مرة خرج الأعمش في جنازة رجل، وكان به عمش وكان يحفظ ألف ألف حديث -يعني: مليوناً بأرقام اليوم- بإسنادها ومتنها، لا يدخل إسناد في متن، ولا يختلط رجل بآخر، مع شدة في خلقه.

وذات مرة وهو في مجلس التحديث -وكان يكره أن يجلس أحد إلى جواره- فجاء طالب علم جديد لا يعرف طريقة الأعمش، فجلس بجواره، والطلاب لا يستطيعون أن يقولوا للرجل: ابعد، لكن لو علم الأعمش أن الرجل قعد بجانبه سيفض المجلس؛ فسكتوا، فشعر به الأعمش؛ فظل يبصق عليه حتى انتهى المجلس، يقول: حدثني فلان -ويبصق عليه- حتى انتهى المجلس، والرجل ساكت خشية أن يقول شيئاً، فيقطع الأعمش المجلس.

وقال له رجل مرةً: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ بحلقه ولزقه بالحائط وقال: هذا إسناده! تصور رجل بهذه العسرة في التحديث كيف يتهافتون عليه، ولا يزهدون فيه!! اليوم لو أن أي طالب علم رأى من معلمه شيئاً يشينه اعتزله ولا يقابله في الطريق، ولا يسلم عليه، هذا إن كان من المتقين، وإلا ربما افترى عليه أيضاً، فأين هذا من ذاك؟! كان الأعمش بمثل هذا الخلق يكسر الكبر في نفوس تلاميذه، ويعلمهم التواضع الجم، وكان -فيما نحسب- حسن النية، جعل الله له لسان صدق في هذه الأمة، فلا يذكر إلا بالجميل.

وورث أبو بكر بن عياش منه هذا العسر في الرواية، فقالوا له يوماً: حدثنا بحديث.

قال لهم: لا، ولا بنصف حديث.

فقالوا له: حدثنا بنصف حديث.

قال: اختاروا: السند أو المتن؟! فقال له رجل يريد أن يمدحه إلى نفسه: أنت عندنا إسناد -يعني ينتظر أن يقول لهم متناً- فقال لهم: كان إبراهيم يدحرج الدلو.

! قال الخطيب: فانظر! ضن عليهم أن يحدثهم بحديث ينفعهم.

ولا يتصورن أحد أن هذا الفعل من هؤلاء السادة فعل شائن، بل كان من أجل أفعالهم لتأديب طلاب العلم، وكان الأعمش يقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني، وما رفعني إلا الحديث لماذا؟ لأنه واضح من لقبه، فهو لقب بـ الأعمش لعمش كان في عينه، وليس من الغيبة: أن يذكر الرجل بالعيب الذي فيه على سبيل التعريف وليس على سبيل التنقيص، وهذا موجود بكثرة كـ الأعمش وكـ الأعرج عبد الرحمن بن هرمز، أما غندر فهو لقب ليس بعيب، وغندر هو لقب محمد بن جعفر وهذا ليس من العيب الخَلقي، غندر أي: المشرد بلغة أهل الحجاز، وأطلقها ابن جريج على محمد بن جعفر عندما كان يشرد في مجلسه.

ومثلاً كـ ابن علية ينسب لأمه إسماعيل بن علية، والأحول ونحو ذلك.

فكل هذه الأوصاف إذا قيلت في جزء التعليم فقط لا تعد من الغيبة، وإن قيلت على سبيل التنقيص فهذه غيبة.