للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طول الزمان]

قوله: (وطول زمان)، وهذا إشارة إلى أن المرء إذا طال عمره في العلم كان أقوى في الفتوى، فما أعجب اعتراض بعض طلاب العلم على المشايخ وهو ليس له في طلب العلم إلا سنة واحدة! نسأل الله السلامة! عمره سنة واحده في طلب العلم ومع ذلك ما ترك أحداً إلا وقال: أخطأ فلان وفلان وأنا أعرف طالباً في الجامعة كتب كتاباً يحكم فيه بين المتنازعين في الحديث، عالمان من العلماء الكبار متنازعان في تصحيح حديث.

قال: فلما رأيت الشيخين الجليلين اختلفا أحببت أن أفصل بينهما.

أهذا من الأدب؟ طالب يفصل النزاع بين البخاري ومسلم إن طول العمر يكسب الملكة في الاستنباط، وهي لا توجد في الكتب ولا تدرس، بل تحتاج إلى عمق وممارسة.

مثلاً: مسألة الجمع بين الصلاتين في الحضر، ورد فيها هذا حديث صحيح وهو من حديث ابن عباس في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جمعاً في الحضر من غير سفر ولا مطر، فسئل ابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: لئلا يحرج أمته)، مع أن الأصل أن الصلاة تقام في وقتها: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:١٠٣]، لكن هذا الجمع في الحضر يحتاج إليه بعض الناس، كدكتور سيعمل عملية تستمر ست ساعات، وفتح بطن المريض قبل الظهر بساعة، فسيأخذ ست ساعات، بمعنى أن الظهر سيضيع عليه، فلو قلنا له: اترك المريض واذهب إلى الصلاة؛ لن يرجع إلا وقد مات المريض.

لكن نقول له: لك رخصة في جمع التأخير، فاعمل العملية وأخر الظهر إلى وقت العصر لماذا؟ لأن هذا فيه حرج، فترك المريض وبطنه مفتوحة حرج شديد.

كذلك مثلاً: إذا كان المريض أباً أو أماً أو أخاً، وهناك ضرورة ملحة لأن تقف بجانبه، فيجوز لك أن تترك صلاة الجماعة، وتجمع بين الصلوات، لكن إذا أتى رجل وقال: هل يمكن لي أن أجمع بين الصلاتين، وليس عنده عذر، وأجزت له؛ فسوف يتخذ هذا الحديث ذريعةً لإهماله، ويجمع الظهر مع العصر، ويقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجمع بين الظهر والعصر.

فالواجب عليك لمثل هذا الصنف من الناس ألا تعطيه الفتوى بالجواز.

وهذا مثال آخر يبين أن الملكة لا تأتي إلا بالممارسة: أبو حاتم الرازي رحمه الله، مر عليه حديث رواه الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن زيد بن عبد الله، فقال أبو حاتم: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش.

لقد أصبح يسمع الحديث فيعرف راويه، كما يتذوق أحدنا في بيته الأكل فيميز بين الجيد والرديء، فأصبحت هذه الأحاديث عند أبي أبي حاتم من كثرة الدربة والممارسة لها علامة خاصة، فأول ما يسمع بحديث للأعمش يقول: هكذا أحاديث الأعمش رجل له ملكة، وهنا قال: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش، هذا يشبه أحاديث عمرو بن الحصين - وعمرو بن الحصين متروك، كذبه بعض العلماء- قال أبو حاتم: ثم رحلت إلى بلد كذا وكذا وإذا بي أجد الحديث عن الأعمش عن عمرو بن الحصين عن أبي سفيان عن جابر، قد دلسه الأعمش فأسقط عمرو بن الحصين.

ما الذي عَّرف أبا حاتم أنه من حديث عمرو بن الحصين؟! لأن أحاديث عمرو بن الحصين لها مذاق خاص عند أبي حاتم الرازي.

وهذا يحصل بالدربة، ولممارسة، وبكثرة النظر.

(وطول زمان) إشارة إلى أن العلم لا يذلل لصاحبه إلا بطول الزمان.

وكم من مسائل كنت أتشبث بها وأظنها هي عين الصواب، فتبين لي فيما بعد أنها عين الخطأ.