للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضرب المثل بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء]

في سورة النحل قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٧٣ - ٧٤]، ثم ضرب سبحانه وتعالى مثلين؛ ليبين أنهم لا يعلمون؛ وأن واقعهم ينادي أنهم لا يعلمون حتى وإن ادعوا أنهم يعلمون، واقعهم ينادي بجهلهم، فهذا الجاهل الغبي كيف يضرب المثل لربه؟! وانظر إلى ترفق الله عز وجل بالعبد، وصبره على ضرب المثل له، وبسطه للعبارة! وهذا كله ينبئ بسعة حلمه على عبيده، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النحل:٧٥] أي: لا يستوون {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:٧٥ - ٧٦] أربع صفات: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:٧٦].

تأمل هذا المثل ما أجمله وما أعجبه وأقواه في إقامة الحجة! مفتتح الآيات {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا} [النحل:٧٣] الشيء العجيب كلمة (شيئاً) هذه! ما موقعها؟ مع أنها لو حذفت استقام السياق: (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض ولا يستطيعون) الكلام مستقيم، لكن جاءت كلمة: (شَيْئًا)، هكذا منصوبة كأنها بدل، قال بعض النحاة: إنها بدل من (رزقاً)؛ أي أنك تستطيع أن تضع البدل مكان المبدل منه وتصح العبارة، كأن تقول: (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم شيئاً) والرزق داخل في الكلام، لكن جاءت (رزقاً) ثم قال: (شيئًا).

الرزق شيء، فكأن تقديم الرزق على الشيء من باب تقديم الخاص على العام، وهو عند علماء الأصول يفيد الاهتمام؛ كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:١٦٢] فالصلاة والنسك أخص، والمحيا أعم، لو قلت: (إن محياي لله) دخل فيه الصلاة والنسك وكل شيء، لكن تقديم الصلاة والنسك فيه دلالة على الاهتمام بالصلاة والنسك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)، مع أن المرأة من الدنيا، فكان يمكن حذف المرأة ويقال: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) والمرأة من الدنيا، لكنه أفرد المرأة بالذكر بعد الدنيا إشعاراً بفتنتها وخطورتها.

فبدأ الله عز وجل بذكر أن الآلهة من دونه لا يملكون للعباد رزقاً، وهذه قضية خطيرة وحيوية في حياة الناس.

كم الذين داهنوا أعداء الله عز وجل، بل كانوا عوناً لهم بدعوى أكل العيش! كم الذين ارتكبوا المحرمات ولا يزالون يقول لك: أكل عيش! ماذا أفعل؟! المرتب الأولاد الأكل الشرب... فارتكبوا المحرمات بدعوى الأكل والشرب والرزق! فالله عز وجل ذكر هذه القضية الخطيرة الحيوية في حياة الخلق، بدأ بها: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا} [النحل:٧٣].

حسناً: هذا لا يملك لك رزقاً لماذا تعبده؟ واقعك في الدنيا يكشف أنك اتبعت كل جبارٍ عنيد من أجل الرزق ولقمة العيش، فلماذا خالفت هنا؟! ثم ضرب الله عز وجل مثلاً فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل:٧٥]، وهذا واقع في حياة العرب، كان عندهم عبيد، وكانوا يعلمون أن العبد المملوك لا يقدر على شيء أبداً، لذلك من العلماء من لم يجز شهادة العبيد لماذا؟ قال: لأن العبد في ملك سيده، فقد يُدعى العبد للشهادة، فيقول له سيده: لا تذهب، فهو مسلوب الإرادة، ولا بد له أن يطيع سيده؛ فتضيع الشهادات وتضيع الحقوق؛ لذلك قال: هذا عبدٌ مملوك لا تناط به الشهادة، ولا يملك حل شيءٍ ولا ربطه.

فيا أيها العرب: عندكم عبيد، وأنتم تعلمون أنهم لا يملكون شيئاً، فنضرب المثل لكم بما تعلمون.

وقال: (مملوكاً) حتى يظهر المعنى؛ لأنه لو قال: ((وضرب الله مثلاً عبداً)) فقد تتصور أن المراد مطلق العبودية، التي تشمل الحر والمملوك؛ لكنه أراد أن يخرج الحر من ضرب المثل، وأن المثل مضروبٌ للملوك.

كلمة (عبد مملوك) معناها: أنه لا يقدر على شيء، لكنه أبان عن عجزه الكامل ودفع كل تأويلٍ يتأول به فقال: ((لا يقدر على شيء)) من باب التأكيد والبيان، كما قال تعالى في مفتتح هذا الربع في سورة النحل: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:٥١]، مع أنه مستقرٌّ عند جميع الناس أن الإلهين لا يكونان ثلاثة ولا أربعة ولا خمسة، إلهان: مثنى، فهما اثنان، إنما جاء هذا للتأكيد، كما لو قلت: أنا رأيتك بعيني، مع أنك لا ترى إلا بعينيك، أو تقول: أنا سمعتك بأذني، مع أنك لا تسمع إلا بأذنيك.

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:٧٥] هذا هو الشطر الأول من المثل، ثم قال تعالى: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا}: أي وضرب الله بالرجل الحر المثل، وتأمل كلمة (منّا) هذه التي تفيد الإمداد الشخصي، ملك من الملوك يمد رجلاً يقول: أنا الذي أعطيتك.

إمداد شخصي.

فالله عز وجل يقول: أنا الذي أمده، وأنا الذي أرزقه، وفيه عناية بهذا العبد.

{وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}: رجلٌ حر، ينفق ماله سراً وجهراً، يميناً وشمالاً، وعنده رافد ومعين لا ينضب، وهو: أن ملك الملوك -تبارك اسمه- هو الذي يمده، فهو رجل لا يخشى الفقر ولا الفاقة، فهو ينفق ببذخ وسخاء بالله عليكم هل يستوون؟! انظر إلى وضوح المثل فهو واضح جداً جداً؛ ولذلك قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:٧٥]، حمد الله عز وجل نفسه أنهم لا يستوون في عقل أي عاقل، وحمد الله عز وجل نفسه أن الذين كفروا لا يعلمون، إذ لو علموا لشغبوا على الذين آمنوا؛ فليظل هؤلاء في جهلهم يرتكسون.

وهكذا يحمد الله عز وجل نفسه أنه لا يوصل الخير إلى الذين ظلموا، قال تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٥] فحمد نفسه بعد إهلاك الذين ظلموا؛ لأن في إهلاكهم نجاة للذين آمنوا.

وفي غيابهم أيضاً نجاةٌ لحجج الذين آمنوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم منافقٌ عليم اللسان يجادل بالقرآن)؛ لأنه يضل الناس، منافق له لسانٌ عذب يستطيع أن يقيم الحجج ويزين الكلام، فمع نفاقه لا يخلو كلامه من آيةٍ وحديث.

فمع حسن العرض وتزيين الكلام بالآية والحديث يظن الناس أنه من الحق؛ فيفتتنوا، فهذا أخوف ما يخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة: (منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن).

فإضلال الذين كفروا عن موضع الحجة نعمة؛ لذلك حمد الله نفسه عليها: (هل يستوون)؟ أي إنسان عنده مسكة من عقل يقول: لا يستوون، فقال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.