للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معرفة عائشة بحديث الإفك]

ورجعت عائشة إلى بيتها مريضة، واشتكت من مرضها شهراً كاملاً، وهي ولا تعلم بالخبر، والمدينة تغلي، حتى خرجت ليلة مع أم مسطح قبل المناصع -وهو مكان يقضون فيه حاجتهم- وكانت العرب إذ ذاك تستنكف أن تتخذ الكنف في البيوت -أي: دورة المياه- إنما عندهم الصحراء، فأيما رجل أو امرأة أراد أن يقضي حاجته فإنه يذهب إلى الصحراء.

فـ عائشة رضي الله عنها خرجت مع أم مسطح لتقضي حاجتها، وكانت قريبة لها في الرحم، فقضوا حاجتهم، ثم وهم راجعون عثرت أم مسطح في مرطها، أي: تعثرت في ثوبها، فقالت: (تعس مسطح!).

تدعو على ابنها، وهذه كلمة كانت تخرج وتجري على لسان العرب، لا يقصد بها الدعاء، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاذ: (ثكلتك أمك يا معاذ!) أي: فقدتك، ومثل هذا في قصة الرجل الذي أصابته الشجة في رأسه واحتلم، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تجدون لي رخصة أن أتيمم من الجنابة؟) لأنه إذا اغتسل دخل الماء في رأسه فربما يموت، فقالوا: (لا نجد لك رخصة) فاغتسل فمات، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قتلوه قتلهم الله)، فليس المقصود بهذا حقيقة الدعاء بالقتل، وإنما همو يجري مجرى التوبيخ.

فقالت أم مسطح: (تعس مسطح!) فقالت عائشة: (فأنكرت عليها ذلك، وقلت لها: بئس ما قلت! أتسبين رجلاً شهد بدراً؟! فقالت: أي هنتاه! أولا تدرين ما يقول؟ قالت: وما يقول؟ فقصت عليها حديث الإفك، وما يخوض الناس فيه.

قالت: فازددت مرضاً على مرضي، وظللت ليلتي أبكي، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، فلما أصبحت استأذنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتي أبوي، وذلك لأستوثق من الخبر، قالت: فجئت فدخلت على أمي - أم رومان - فقلت: أي أماه! ما الذي يتحدث الناس فيه؟ قالت: هوني عليك يا بنيتي، فوالله لقلما وجدت امرأة وضيئة عند رجل ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.

فقالت عائشة: سبحان الله! أوقد تحدث الناس بذلك؟! قالت: فبكيت يومي لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، قالت: ويريبني أني لا أجد اللطف الذي كنت أجده من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أشتكي).

فلا يريبها شيء إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام يكون شديد اللطف معها إذا مرضت، وهي الآن مريضة ثلاثين يوماً، شهر كامل، ومع ذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يقول لها غير كلمتين اثنتين فقط، طوال ثلاثين يوماً، يدخل وهي مريضة طريحة الفراش، وحولها أمها وبعض النساء وأبو بكر الصديق، فيدخل فيسلم، ثم يقول: (كيف تيكم؟) (تيكم): اسم إشارة، أي: كيف هذه؟ كيف حالها؟ هذا فقط هو ما كان يقوله طيلة شهر، وهي تستغرب أين اللطف المعتاد؟! ولا تجد سبباً، حتى وجدته بعد شهر كامل.