للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدعوة إلى الشرك بالله]

الجنس الأول: الدعوة إلى الإشراك بالله والكفر به، فإذا ظفر الشيطان منه بذلك خف أزيزه، وقل مع المرء عمله، وهذا هو ما يصبو إليه الشيطان، وهي الغاية القصوى لما يريد: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:١٦].

المعنى: لأقعدن لهم على صراطك المستقيم، لكن حذف حرف الجر (على) أقوى، {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} [الأعراف:١٦] فإن الذي يعلو على الشيء قد يفارقه، إنما هذا معناه أنه لزم القعود على الصراط لزوماً أكيداً لا يفارقه ولا يغادره؛ حتى صار كأنه والصراط شيئاً واحداً: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:١٦].

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي وأحمد وابن حبان من حديث سمرة بن أبي الفاكه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه) ما من طريق إلا وعليه شيطان بل شياطين، وقال الله تعالى أنه قال:: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:١٧] هي هذه الجهات الأربع التي يتحرك فيها ابن آدم.

قال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان قعد لابن آدم على أطرقه) أي ما من طريق يتوجه ابن آدم إليه إلا كان الشيطان عليه.

فجاءه من باب الإسلام، وقال له: أتسلم وتذر آلهتك وآلهة آبائك وآباء أبيك؟ فعصاه فأسلم، فوقف له على طريق الهجرة قال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الصِول -الصول هو: الحبل الذي تربط به رجل الفرس ثم في نهاية الحبل وتد، فيكون الفرس في حدود طول الحبل، مثل المهاجر كالفرس في الصول، وأي مهاجر في بلاد الغربة مساحة حركته ضيقة، إما أن يكون فر هارباً فهو حريص على ألا يصل إليه أحد، إذاً دائرة معارفه ضيقة وليست كالذي يسكن في بلاده وبين أهله وماله.

أيضاً: مساحة رزقه أقل من مساحة رزق الإنسان المقيم في بلده وبين إخوانه وأهله، فيقول له: إنك إذا هاجرت قيدت حركتك، فعصاه وهاجر.

ثم قعد له في طريق الجهاد فقال له: تقاتل؛ فتقتل، وتنكح المرأة، ويقسم المال، يعني امرأتك التي تغار عليها ولا تتخيل على الإطلاق أن يتزوجها رجل غيرك، فنخوتك تمنع من الذهاب إلى الجهاد؛ لأن هذا معناه أنك ستقتل والمرأة ستنكح بعدك، فكيف تجاهد؟! فعصاه وجاهد.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاهد في سبيل الله فقتل فله الجنة، فغرق فله الجنة، فوقصته دابته فله الجنة).

إذاً: الشيطان يقعد على كل طريق لابن آدم، وأعظم ما يصبو الشيطان إليه ويدعو الناس جميعاً إليه: أن يشركوا بالله، ولذلك قدم الله عز وجل بالتنبيه على هذه العظيمة التي لا تبقي حسنة للعبد: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٨١].

هذه السيئة التي تحيط بالعبد وبحسنات العبد هي الشرك، فذكر ربنا تبارك وتعالى هذه الفاقرة العظيمة بين يدي كيد الشيطان وطرقه وأساليبه فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا * إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:١١٦ - ١٢٠] تلخيص عداوة الشيطان: شباكه التي ينصبها، ومصائده التي يقيمها لأولاد آدم (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ) الذي يعبد الشيطان يأتمر بأمره، فكل من حاد عن حكم الرحمن عز وجل فهو تبع للشيطان، ولذلك أخر الأمر بعد الإضلال والأمنية (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ) وهذا نوع من التنصيص على جملة من أوامره لا على كلها (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ) البتك: القطع، وكانت الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، وكان آخر بطن أنثى، كانوا يقطعون أذنها ويتركونها لآلهتهم، وهذه هي البحيرة، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:١٠٣] ما جعل الله شيئاً من ذلك أبداً.

يقول سعيد بن المسيب فيما رواه البخاري في صحيحه ومسلم: البحيرة كانوا يدعون درها للطواغيت -يعني: اللبن- والسائبة أي: التي يسيبونها لآلهتهم، تلد خمسة أبطن آخرها أنثى فيسيبونها لآلهتهم.

الوصيلة: هي الناقة تلد البطن الأول أنثى والبطن الثاني أنثى، فإذا ولدت أنثيين في المرة الأولى والثانية قالوا: قد وصلت الأنثى بأنثى، وهذا من غيظهم على الله، لماذا يعظمون الأنثى وإذا ولدت أنثى يتركونها؟ لأنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثاً، وجعلوا لله البنات، فالأنثى عندهم نوع من الغيظ.

الحام هو: فحل الإبل الذي يعدونه للضراب، وقد بقي في هذه الأمة شيء من هذا الفعل الجاهلي، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك بالنص، ففي الحديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل) وهذا كثير في بلاد الريف، رجل عنده أنثى فيذهب إلى رجل عنده فحل يضربها لتحمل؛ فالرجل الذي عنده الفحل يتعاطى أجراً على فعل الفحل، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحرم أخذ الأجرة على ذلك، ولا يتعللن أحد بأن الرجل يطعم الفحل؛ لأنه لابد أن يطعمه.

فالحام: فحل الإبل الذي أعدوه للضراب، فإن ضرب عشر مرات تركوه وقالوا: هذا حام، ما جعل الله شيئاً من ذلك، لكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، ويقولون: شرع كذا وكذا وكذا.

فربنا تبارك وتعالى ذكر طرق الشيطان لكن نبه على أعظمها (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) وسنرجع إلى بسط هذا المقام فإنه مقام خطير زلت فيه أقدام.