للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أواخر سورة الفرقان نموذج للتذكير بالنعم]

في أواخر سورة الفرقان هذا النمط من تذكير العباد بالنعم، ثم ذكر ما يفعله العباد في مقابل هذه النعم: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٣ - ٤٤].

هناك نمط من البشر الكلب أفضل منه؛ فهو لا يستحق الحياة، وهذه شهادة الله عز وجل عليهم، وإذا جرح الله عز وجل عبداً فلن تجد له معدلاً أبداً: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:١٨].

إذا جرح الله عبداً وسخط عليه لا يرفعه أحد: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:٤٣] أي: جعل هواه إلهاً، كلما أعجبه شيء فعله، لا يصدر إلا عن هوى نفسه، هذا هو الذي جعل إلهه هواه.

إن الله عز وجل علمنا وأدبنا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:١] أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى تؤمروا، هذا هو معنى قوله: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله).

من فعل ما لم يؤمر به فقد تقدم بفعله بين يدي الله ورسوله، ومن امتثل أمراً غير أمر الله عز وجل، فقد تقدم بين يدي الله ورسوله.

والذين يتقدمون بين يدي الله ورسوله من المسلمين هم اليوم بالألوف المؤلفة يسمعون القول ولا يمتثلونه.

ربا البنوك أجمع العلماء على أنه حرام، وهكذا اتفقت كلمة المجامع العلمية على أنه حرام، وشذ رجل اتهموه بالجهل في أصول الشريعة، وقالوا: إنه لا يفقه شيئاً في الأصول! وكتبهم موجودة.

فقال: ربا البنوك حلال، فماذا كان رد فعل العامة تجاه هذه الفتوى؟ مذهب العامة أنه إذا قام رجل فقال قولاً يخالف المعهود عندهم يقولون له: أأنت أهدى أم كل هؤلاء؟ ويستدلون على الحق بالكثرة، وهذا ليس بدليل صحيح، فإن الله عز وجل وصم الكثرة بالضلال، قال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣]، وقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:٧٥].

والحق مع القلة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)، فلا تستدل على الحق بالكثرة، فإن الكثرة لم تكن مظهراً من مظاهر الحق أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء).

فيقولون للرجل المتفرد -ولو كان معه الحق-: أأنت على حق وكل هؤلاء على باطل؟! وأنا أدين هذا العامي بمذهبه في هذه المسألة، وأقول له: أكل المجامع العلمية على ضلال وهذا وحده على حق؟! أين مذهبك؟! مذهبك أن الحق مع الكثرة، فلماذا خالفت الكثرة هنا، واتبعت رأي الفرد الشاذ؟! إنه الهوى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:٤٣] فلأن البنك يأتي له بفائدة ومكسب اتبع قول من يبيحه له.

فكلما هوي شيئاً اتخذه إلهاً، وعبده من دون الله عز وجل، قال الله عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٤].

لقد اتهموا الحمار بالغباء، والحمار ذكي! لو أن الحمار مشى في طريق مرتين ألفه ولم يضل، فهذا الحمار المجني عليه أذكى من كثير من بني آدم، فإن ثلثي الكرة الأرضية يكفرون بالله العظيم.

{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٤].

ثم شرع الله عز وجل يعدد نعمه على العباد، ويعدد ما فعله لهم، ثم ذكر النتيجة المحزنة بعد إنهاء تعداد النعم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:٤٥ - ٥٤].

تأمل! (وهو الذي، وهو الذي، وهو الذي، وهو الذي) أربع مرات، ضمير الرفع المنفصل هو يأتي لتأكيد التفرد، أي: هو الذي فعل لا غيره، لم يشاركه أحد في كل هذه النعم، فهو الذي فعل كذا وكذا وكذا وكذا، ما هي النتيجة؟ قال عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:٥٥] فهذا هو رد الجميل، وهذه هي النتيجة؟ بعد تعداد كل تلك النعم يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم! فهذا خطاب للقلب، وأي رجل عنده قلب يسمع هذا البيان، فإنه يرجع إلى الله عز وجل، ويخلع الأنداد من دون الله عز وجل؛ لأنه هو الذي تفرد بالعبادة، وهذه من طريقة القرآن الرائعة في إقامة الحجة على الناس.

أقام الحجة على أنه الإله المتفرد بالعبادة، بالنعم التي أنعم بها على العباد، فالذي أوجد، والذي خلق، والذي رزق أولى أن يعبد من دون غيره الذي لم يخلق شيئاً.

ثم تأمل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:٤٨] نوع من الكفران بالله عز وجل سجله الله على العباد في هذه الآية: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:٤٨ - ٥٠] ما هو هذا الذي صرفه الله بينهم؟ المطر، الماء، وليس القرآن: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان:٥٠]، أي: صرفنا الماء بينهم؛ لأن الضمير ينبغي أن يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو الماء وليس للقرآن ذكر: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ} [الفرقان:٤٨ - ٤٩] والمراد به الماء (مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان:٥٠].