للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التوكل والأخذ بالأسباب]

حقيقة التوكل: اعتماد القلب على الله بغير البراءة من الأسباب، أي: أنه ليس معنى التوكل التواكل، وترك السبب لا، الرسول عليه الصلاة والسلام لما خرج من مكة إلى المدينة ماذا فعل؟ ألم يختبئ في الغار؟! لماذا اختبأ؟ كان يمكن أن يمشي، ويقول: أنا متوكل على الله، ولن يروني، ولن يستطيعوا إيصال الضر إلي، كان هذا ممكناً، ولكن لماذا اختبأ في الغار؟ هل هذا ينافي التوكل؟ لا ينافي التوكل، ولا ينافي اعتماد القلب على الله، انظر إلى اعتماد قلبه على الله وهو في الغار، حين قال له أبو بكر رضي الله عنه: (لو أن أحداً نظر تحت قدمه لرآنا -هنا ظهر التوكل- قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).

هذا هو التوكل، الذي هو اعتماد القلب على الله، لكن لا يمنع من أخذ السبب.

كما أنك تأكل لدفع الجوع، وهذا كله من الأسباب التي قدرها الله عز وجل، وأكلك لحفظ حياتك لا ينافي التوكل على الله عز وجل، بل العباد يعدون تارك الأسباب بدعوى التوكل مجنوناً.

فلو قال رجل: أنا لن أتزوج، ولو أراد الله عز وجل أن يرزقني بالولد لرزقني بالولد، يقول الناس: مجنون! إذ كيف يرزق الولد بغير زوجة؟! لو قال: أنا لا آكل، ولو شاء الله لحفظ حياتي ولم يمتني بدون أكل؛ لعد العباد ذلك نقصاً.

ولو جلس رجل في بيته وانتظر أن ينزل الرزق من السماء؛ لقال الناس: مجنون.

إذاً التوكل ليس معناه نفض اليد من الأسباب، إنما معناه: اعتماد القلب على الله عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:٥٨] لتمام حياته وقيوميته.

ثم ختم الآية ختاماً في غاية العجب والروعة! {وَكَفَى بِهِ} [الفرقان:٥٨] تأملوا في عجز الآية، إنها آية! {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:٥٨] لماذا ذكر الذنب؟ هذا الآية تكررت مثيلاتها مرة واحدة في القرآن، في سورة الإسراء: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء:١٧]، فلماذا ذكر الذنب؟ ذُكر الذنب -والله أعلم- لسببين: السبب الأول: لأن العباد يجتهدون في إخفاء الذنب، يفعل أحدهم الذنب في الخفاء، فإذا كان يجتهد في إخفاء الذنب ويعلمه الله عز وجل؛ فهذا يدل على تمام حياته وقيوميته على عباده، تأكيد للحياة، أثر من آثار حياته تبارك وتعالى وأنه لا يموت {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} [الرعد:٣٣]، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥] تذكر القيومية مع الحياة، إذاً لما قام على كل نفس بما كسبت ذكر الذنب؛ لأن العباد يجتهدون في إخفاء الذنب بخلاف الطاعة، فإن العبد يظهرها أمام الناس، ويتبجح بها.

المعنى الثاني: (كفى به) كلمة (كفى) أول ما تسمعها تتذكر معنى الكثرة والإحاطة: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:٣١] {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الإسراء:٩٦] فيها معنى الإحاطة والكثرة.

وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:٥٨] فالآية لها تعلق بالرزق، فالله يرزقك وقد ضمن للعباد أن لا يجيعهم.

فما هي النتيجة؟ {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:٥٨] يدل على أن ذنوب العباد فاقت كل تصور مع إنعامه وتفضله، وأنه رغم ذنوبهم يقول: إلي! إلي! تعالوا! رغم ذنوبهم لا يتبرأ منهم، وهو أرحم بهم من الأم بولدها: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:٥٨] مع كثرة ذنوبهم يقول لهم: توكلوا علي؛ لأنهم لا يجدون له عدلاً ولا نظيراً.