للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من أساليب أهل الضلال: الغلو في العبادة]

ومن الشباك التي ينصبها أهل البدع للناس: الغلو في العبادة، فعندما تأتي رجلاً عابداً زاهداً ضارعاً ثم يقول لك شيئاً يقع في روعك -وأنت خال من دعوة الحق- أن هذا الرجل محق.

ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين فجاء رجل وقال: (يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل!!) أو قال في اللفظ الآخر: (هذه قسمةٌ ما أريد بها وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، هكذا هو الضبط الأشهر، فالفتح للمخاطب: (لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، والضبط الثاني: (لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل)، فعلى الضبط الثاني المعنى واضح، أي: أنا إن لم أعدل خسرت، بسبب عدم العدل، لكن على الضبط الأول يكون المعنى: لقد خبت أنت أيها القائل وخسرت، فما ذنب القائل؟ إذا جاز للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يعدل فما هي جناية الرجل الذي لم يكن له في الأمر شيء؟ قال العلماء: المعنى: لقد خبتَ وخسرتَ بسوء ظنك في نبيك؛ أي: متى ظننت أن نبيك لا يعدل وهو مرسلٌ من قبل الله عز وجل فهذا الظن هو الذي أرداك.

فأراد خالد أن يقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية).

فهذا الكلام موجه لـ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي عبيدة بن الجراح، والعبادلة الأربعة: ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، فهو موجه إلى هؤلاء الفطاحل، فمثلاً: خذ واحداً منهم وليكن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو أحد العبَّاد وليس أفضلهم، فهو ليس أفضل من أبي بكر ولا عمر بن الخطاب ولا أفضل من بقية الأربعة ولا بقية العشرة، بل العشرة أفضل، فـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان عابداً إلى درجة أنه جاء في مسند الإمام أحمد من حديث مجاهد عنه في قصته الطويلة وهي أن أباه زوجه امرأة ذات حسبٍ من قريش، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص رجلاً يقوم الليل، ويقرأ القرآن كله كل ليلة، كما في صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمرو قال: (جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أقوم به كل ليلة).

ولما دخل بها أحب عمرو بن العاص أن يطمئن على العروسين، فهو يقول في مسند أحمد: (زوجني أبي امرأة ذات حسب من قريش فلما أدخلوها عليّ -وانظر إلى التعبير!! فالعادة أن يقول الرجل: فلما دخلت بها، فكلمة (أدخلوها علي) توحي لك بأنهم أدخلوها غصباً- قمت أصلي) فظلَّ يصلي طوال الليل، وعمرو بن العاص يعرف أن ابنه من الممكن أن يعمل هذا، ففي الصباح ذهب إلى زوجة ابنه يسأل عن الأخبار؟ فالمرأة مؤدبة بالطبع وصاحبة دين وخلق فقالت كلاماً جميلاً: (عبد الله نعم العبد لربه، لكنه لم يفتش لنا كنفاً، ولم يعرف لنا فراشاً، قال: فأقبل علي أبي فشتمني وعضني بلسانه، وقال لي: أنكحتك امرأة ذات حسبٍ من قريش فأعضلتها، وشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم).

فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستجوبه، وقال يا عبد الله: هل تقرأ القرآن كل ليلة؟ هل تصوم كل يوم؟ وبدأ يخفف عنه: اقرأ القرآن في أربعين، اقرأ القرآن في شهر حتى وصل إلى ثلاث، وقال: (لا تقرأ القرآن في أقل من ثلاث فإنه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه)، وكذلك الصيام حتى وصل إلى صيام داود، فكان يصوم يوماً ويفطر يوماً.

فـ عبد الله بن عمرو أحد العباد لكنه ليس أشهر عباد الصحابة، فهناك من هو أفضل منه.

والحجاج بن يوسف الثقفي لما وقعت الحرب بينه وبين عبد الله بن الزبير كان الحجاج يخطب على المنبر ويقول: عبد الله يعني ابن الزبير شر أمة محمد! فماذا كان يعمل عبد الله بن الزبير الذي كان يقول عنه الحجاج إنه شر هذه الأمة؟ كان صواماً قواماً، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلما ظفر به الحجاج قتله وصلبه، وكان لا يستطيع أي مار أن يقف ثانية أمام الجسد المصلوب إلا عبد الله بن عمر بن الخطاب وقال: السلام عليك يا أبا بكر أشهد أنك كنت صواماً قواماً، والله لأمة أنت شرها خير أمة، وهذا رد على الحجاج، فإذا كان شرها صواماً قواماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر فكيف بأفاضلها؟ لما كانت الحرب سجالاً بين علماء الرأي في العراق وعلماء الحديث في المدينة أيام أبي حنيفة ومالك كان أحد قضاة الرأي يتكلم على المحدثين ويقول: مساكين أهل الحديث لا يعرفون شيئاً في الفقه! فقال أحد المحدثين: وكانت بي علة فحبوت إليه وقلت له: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات: فأي شيءٍ قال علي؟ وأي شيء قال ابن مسعود؟ وأي شيءٍ قال زيد بن ثابت؟ فسكت ولم يعرف شيئاً، ثم قال له: أنا أخف أصحاب الحديث سألتك عن مسألة لم تحسنها، فكيف ترميني بما لا تحسنه؟ فلا تقف أمام فحولهم.

فانظر كيف كانت عبادة عبد الله بن عمرو بن العاص، فعندما يرى عبد الله بن عمرو بن العاص واحداً من أتباع ذي الخويصرة التميمي يقول في نفسه: وهل أنا أصلي؟!! هل أنا أصوم؟!! أي صلاة وصيام هذا؟! إذاً إلى أين سيصل؟ فعندما يحتقر عبد الله بن عمرو صلاته إلى صلاة هذا الخارجي، فماذا يفعل هذا الخارجي؟ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام لعباد الصحابة: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم) فتخيل أنت عبادة هؤلاء الخوارج! هذا معناه أن عبادتهم فوق الوصف.

إذاً: ليس من صفات أهل البدع أن يكون فاسقاً منحلاً، فهؤلاء عباد من الطراز الأول.

سيقول شخص: أنت هكذا أشكلت علينا بهذا جداً، لأني أرى من أهل السنة من هم عباد فأخشى أن يكون هذا مثلهم، فتكون مشكلة.

إذاً: ما هو الفارق بين أهل البدعة وأهل السنة، وهم يشتركون في العبادة والجد فيها، وفي قراءة القرآن وفي طلب العلم حتى القعر؟ فنقول: إن الفرق هو سلامة المنهج والوقوف على السنة.

قيل للشافعي رحمه الله: (إن الليث بن سعد يقول: لو رأيت الرجل يمشي على الماء وهو يخالف السنة فاعلم أنه ضال.

قال الشافعي: قصّر الليث رحمه الله، بل لو رأيتهم يطيرون في الهواء وهم مخالفون للسنة فاعلم أنهم ضلاَّل)، وهل هناك رجلٌ يعظم السنة ولا يعظم حملتها؟! لا بد أن يعظم الذي نقل إليه الدليل إذ لو زاد الطعن في الصحابة لزاد الطعن في المنقول إلينا من خلالهم.