للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إنفاق المال في وجوه الخير لا يتأتى إلا بالعلم]

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا حسد إلا في اثنتين) فهذا يفيد أنه لا يحسد المرء إلا على حالتين فقط: (رجل آتاه الله الحكمة -وفي رواية- آتاه الله القرآن -وفي رواية- آتاه الله العلم -وكلها بمعنى واحد- فهو يقضي بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) (سلطه) أي: سلطه الله على إهلاك المال، انظر التفاني في بذل المال يصل إلى حد أن صاحب المال يسلط على هذا المال فيهلكه.

ثم ذكر قيداً آخر مهماً: (في الحق)، حتى يخرج عن حيز المبذرين؛ لأن إهلاك المال أو إتلافه وإنفاقه بشراهة في غير الحق مذمة، ولذلك كان هذا القيد مهماً، وكل القيود التي تدخل على هذه الإطلاقات يجب اعتبارها؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فسلطه على هلكته في الحق) فتخلص هذا الرجل من شح نفسه، فلم ينفق ماله ديناراً ديناراً إنما تسلط عليه، فتستشعر من لفظة (سلط) هذه التي وردت في الحديث أن الرجل عنده نهمٌ شديدٌ في الإنفاق، واستخدم أيضاً الإهلاك بديلاً عن الإنفاق ليدلك على مدى الشراهة في إنفاق المال.

ولكن القاعدة التي يرتكز عليها من أراد أن يفلح في إنفاقه للمال لابد أن يكون عنده علم، وهذا واضح جداً في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه عند الترمذي وابن ماجة وأحمد قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه ويعلم أن لله فيه حقاً، فهذا بأعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاًً، فيقول: لو أن عندي مثل ما عند فلان لفعلت مثل ما فعل، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط به لا يرعى لله فيه حقاً ولا يؤدي ما عليه، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً فهو يتمنى أن يكون مثله، فهما في الوزر سواء).

ما الذي فرَّق بين المنزلتين؟ العلم، فالرجل الأول: آتاه الله مالاً وعلماً فهذا بأعلى المنازل.

والرجل الثاني: آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهذا في ثاني المنازل.

أما الثالث: فرجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط.

والذي دونه يتمنى أن يكون كالثالث فهما في الوزر سواء، فالذي فرق بين هؤلاء الرجال هو العلم وليس المال.

لأن الرجل العالم إذا رزقه الله تعالى المال علم أين يضع هذا المال، بخلاف الجاهل إذا آتاه الله المال يخبط ليس عنده نور، ما فلا يضعه فيما يريده الله، فلو فرضنا أنه صرفه في شيء مباح فقد يكون هناك مصرف أولى من هذا المصرف الذي وضع فيه المال.

فمثلاً: عرض عليه رجل يحتاج إلى أكل وإلا مات، ومسجد يحتاج فرشاً، فتراه لجهله يتبرع أو يخرج المال للمسجد ويترك أخاه يموت من الجوع، فأنا أضرب الآن المثل بطاعتين يتقرب إلى الله عز وجل بهما: تنظيف المساجد، وإطعام الطعام، أيهما أعظم عند الله؟ بطبيعة الحال فإن الحفاظ على حياة المسلم أولى وأحب إلى الله، لكنه لأنه جاهل ظن أنه لو وضع ماله في أي مكان استوى كل ذلك، فالعلم هو الذي يميز في هذه المسائل، إنك لا تستطيع أن تبذل مالك لجميع الناس فتوخى به أهل الحق، ومصادر الحق.

فالذي آتاه الله تبارك وتعالى المال بجانب العلم كركيزة رئيسية هذا هو السعيد، وهذا هو الذي تَبوَّأ أعلى المنازل، والرجل الثاني الذي آتاه الله تبارك وتعالى العلم دون المال، فيقول: لو أن عندي مثل ما عند فلان لفعلت مثل ما فعل فهما في الأجر سواء.

ففائدة العلم هنا أنه صحح له النية، وتعلم من هذا العلم كيف يعقد النية؛ لذلك أصاب الأجر بغير أن يكون عنده مال، إنما الآخر جاهل؛ لأن الركيزة الأساسية التي يجب أن يرتكز عليها غير موجودة وهي العلم، فلا يستطيع أن يعقد النية، بخلاف العالم فيعقد النية فيأخذ الأجر، حتى بغير أن يتمكن من الإنفاق الذي غبط صاحبه لأجله.