للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

محاربة النبي صلى الله عليه وسلم للبدع قولاً وعملاً

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

أيها الكرام! تعلمون أن الله عز وجل خصص اتباع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧].

وقال تبارك وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣].

والاتباع دليل على الحب، لقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١].

وأعظم مناقض للاتباع هو الابتداع.

ولذلك قاومه الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته قولاً وعملاً.

فأما قولاً: فقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب في أصحابه كخطبة الحاجة، ويحذرهم من محدثات الأمور، ولما جاء نفرٌ إلى أبياته صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، وبعدما تقالوها، ووجدوا أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يصنع كبير شيءٍ، قال أحدهم: (أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك وقال: من رغب عن سنتي فليس مني).

فالبدعة سببها الجهل، وكلما اقتربت من السلف الأول ابتعدت عن البدعة، وأنت تنظر إلى جميع المبتدعة ترى علمَهم بالسلف قليل، ولكن لهم سمتٌ عام وهو الجد في العبادة، ولذلك ينتفع بهم كثير من الذين لا يعلمون السنة، وأقرب مثلٍ أبدأ به حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو حديث الإسلام والإيمان والإحسان.

وفي هذا الحديث: قال حميد بن عبد الرحمن الحميري: خرجت أنا ويحيى بن يعمر حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا بما أحدثه معبد الجهني في القدر! فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، فقلت: أبا عبد الرحمن! لقد ظهر قِبَلنا أناسٌ يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم- يعني أفاض في صفاتهم وفي مزاياهم- ولكنهم يقولون: إن الأمر أُنُف وأن لا قدر.

وعند ابن مندة في كتاب الإيمان: قال حميد بن عبد الرحمن الحميري: فقابلني عبد الله بن عمر وكان يعرفني، فسلم عليّ وسألني عن أهلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قِبَلنا ناسٌ يتقفرون العلم ويقرءون القرآن ويقولون: أن لا قدر، قال: فأرخى يده من يدي، وقال: (إذا لقيت هؤلاء فقل لهم: عبد الله بن عمر بريء منكم وأنتم بُرَآء منه، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لئن جاء أحدكم بأحُدٍ ذهباً، فلا يُقْبَل منه حتى يؤمن بالقدر).

فأنت تنظر أيها الأخ الكريم! يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، ومع ذلك لم ينتفعوا بهذا العلم في درء البدعة والتمسك بالسنة.

لم يغتر عبد الله بن عمر بما ذُكِرَ من أوصاف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حذر منهم، كما في حديث الصحيحين: لما جاء ذو الخويصرة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، قال: ويحك، ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا، خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، هكذا الرواية في الصحيحين وهي الأشهر، (خبتَ وخسرتَ)، و (خبتُ وخسرتُ) ظاهرة المعنى، لكن خبتَ وخسرتَ قد يستشكل على بعضهم هذا الفتح، ويقول: إذا جاز على النبي صلى الله عليه وسلم ألا يعدل، فأي خيبة وخسران تعود على الرجل.

قال العلماء: (خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل) معناها: أنك خبتَ وخسرتَ إذ ظننتَ أن نبيك لا يعدل.

وسوء الظن بالنبي كُفر، فخيبته وخسرانه لسوء ظنه في نبيه.

فأراد خالد بن الوليد أن يقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعوه، إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوامٌ، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتُهم لأقتلنهم قتل عاد).

الرسول عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام للعُبَّاد، يقوله: لـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ويقوله لـ عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر، وابن مسعود وأبي عبيدة، هؤلاء السادة، تصوَّر عندما يحقر أبو بكر الصديق صلاته وقيامه في مقابل صلاة هؤلاء! إذاً: لك أن تتخيل كيف تكون صلاتهم؟! وكيف يكون صيامهم؟! وأعطيك مثلاً لبعض أكابر الصحابة وهو عبد الله بن عمرو بن العاص -كما في الصحيحين ومسند الإمام أحمد - قال: (زوجني أبي امرأةً ذات حسب من قريش، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص من المجدين في العبادة، فـ عمرو بن العاص يعلم حال ابنه، فخشي أن يكون قام الليل في ليلة عرسه وترك امرأته، وفعلاً كما توقع، قال: فذهب يسأل امرأتي -أي زوجة ابنه-: ما حال عبد الله معك؟ قالت: عبد الله نِعْم العبد لربه، غير أنه لم يعرف لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً، قال عبد الله: فجاءني أبي فعزمني، وأنبني بلسانه، وقال: زوجتك امرأةً ذات حسب من قريشٍ فأعظلتها؟ قال عبد الله: وذلك لما كان لي من الشَّرَهِ في العبادة) عنده شَرَهٌ كبير للصلاة وللصيام.

وفي صحيح ابن حبان قال عبد الله بن عمرو: (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أقوم به كل ليلة، فشكى عمرو بن العاص ابنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأرسل إليه، فقال: يا عبد الله! كيف تقرأ القرآن؟ قال: يا رسول الله! أقرؤه كل ليلة.

قال: كيف تصوم؟ قال: أصوم الدهر.

فجعل ينزل به إلى التيسير.

فقال له: صمْ يوماً وأفطرْ يوماً.

قال: أقدر.

قال له: اقرأ القرآن في أربعين.

قال: أقدر.

قال له: اقرأ القرآن في شهر.

قال: أقدر.

فلا زال النبي صلى الله عليه وسلم يتدرج به).

فهذا من الشَّرَه في العبادة! فتصور عندما يقال لـ عبد الله بن عمرو بن العاص الذي يقرأ القرآن كل ليلة: إنك لا تقرأ! وهل هذه قراءة؟ لا تجتهد فهناك رجل من الخوارج هو أجد منك في العبادة والصوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام لهؤلاء الصحابة العُبَّاد: (يأتي أقوامٌ يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم).

فعندما تتأمل فهم الخوارج للقرآن تضرب بكفيك عجباً!