للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النبي صلى الله عليه وسلم يوضح الصراط بمثل مضروب]

إن الصراط المستقيم هو غاية المطلوب من إنزال الكتب وإرسال الرسل، وإنما بعث الله الرسل وأنزل الكتب ليسلك الناس هذا الصراط المستقيم.

هذا الصراط كيف شكله ووصفه؟ الرسول عليه الصلاة والسلام وضح لنا في حديثه شكل الصراط، فقال: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً) تخيل الطريق: هذا الصراط المستقيم، سنقول: الصراط المستقيم بعرض هذا المسجد، وهذا طوله.

(وعلى جنبي الصراط سوران): هذا الجدار سور، وهذا الجدار سور.

(وفي السور أبواب): هذه الشبابيك سنعتبرها أبواباً.

(وعلى الأبواب ستورٌ مرخاة): كالستائر التي توضع على الشبابيك، فعلى كل باب ستار.

فربما يقول إنسان: لماذا ستائر؟! لماذا لم يقفل نهائياً؟! نقول: هذا من تمام البلاء؛ لأن الواحد لو حاول فتحها بيده فسيفتحها، وذلك: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢] إذا أغلقت بقفل يجوز أن الضعيف المجرم لا يستطيع أن يفتحه، فيصده ضعفه أن يلجه، والحياة هذه هي حياة اختبار، والله يعطي لكل إنسان الحرية ويقول له: اعمل.

فإذاً: كلمة (ستور مرخاة) دلالة على أن الإنسان يمكن له أن يلج المحارم ببساطة وسهولة، ما يصده عن ذلك إلا دينه وتقواه، وهذا من التشبيه الجميل: (على الأبواب ستورٌ مرخاة).

الناس يمشون على طول الصراط، فهل يعرفون ما هذه الأبواب؟ نقول: نعم، لقد أوقف داع على أول الصراط -وليس في وسطه، لئلا تكون لأحد حجة، فيقول: أنا لم أدر، ولم يقل لي أحد- يقول هذا الدعي: (يا أيها الإنسان -ويشير إلى كل باب من هذه الأبواب- هذا من محارم الله، لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه).

كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويحك! لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه).

(وفوق الصراط داعٍ آخر) كان الداعي الأول في أول الصراط، وهناك داعٍ آخر في أعلى الصراط، فوقه لا في آخره.

و (فوق) هذه لها معنى جميل غاية في الجمال، (فوق الصراط داعٍ آخر) الكلام مجمل؛ فقام الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب مثلاً لكي يوضح المسألة فقال: (الصراط هو الإسلام)، ألسنا نقول: المثل كله بيان، من باب المبيَّن.

(الصراط: هو الإسلام، والسوران: حدود الله) فهذه حدود الله كلها.

(والأبواب: محارم الله) ولو فتحت الباب وذهبت خلف السور ستذهب إلى أين؟ انظر إلى المشكلة! أنت لو فتحت من هنا فستنزل مباشرةً.

انظر (والأبواب: محارم الله) أنت تعلم أن هذا فيه تفسير لحديث النعمان بن بشير: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمورٌ مشتبهات).

هذا المسجد أليس ثلاث مناطق: هذا الحلال، وهذا الحرام، وهنا الشبهة.

وهي ثلاث مناطق: هذه المنطقة الأولى، وهذه المنطقة المنزوعة السلاح، وهذه المنطقة الثالثة.

لو أن أحداً قعد في هذه المنطقة لا يعدوها أبداً، فهل من الممكن أن يصل إلى الحرام؟! مستحيل، كيف يصل؟! أما إذا قفز من فوق السور، ودخل إلى هنا -في منطقة الشبهة- فإنه يمكن أن يدخل الحرام؛ بأن يظل ينط وينط حتى يتجاوز السور فيدخل الحرام.

إذاً: أنت كي تظل في الحلال، ولا تصل إلى الحرام في حياتك كلها، لابد أن تبتعد عن الشبهات: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ولعرضه).

إنسان عطشان يكاد يموت من العطش، وجد خمارة، فدخل إليها، وشرب ماء وخرج، ورأيناه، سنقول عليه: خمورجي، وسنقول: انظروا إلى هذا الرجل الفاسد الفاسق الذي كان للتو يشرب خمراً؛ مع أننا لم نره، لكن هذه شبهة؛ فلم دخل فيها؟! فأنت إذا ابتعدت عن الشبهة، فمن المستحيل أن تقع في الحرام، وستستفيد شيئاً آخر، وهو أن عرضك يظل موفوراً كريماً لا يثلم.

إذاً: حديث النعمان بن بشير فيه توضيح لهذه الجزئية.

هذان السوران: حدود الله، وهذه الأبواب: محارم الله، فمن يدخل من الباب ينفذ إلى خارج السور، ومن وقع في الشبهة، فقد يظل ينحرف حتى يقع في الحرام.

(والداعي على أول الصراط: كتاب الله -فيه كل شيء- والداعي فوق الصراط: هو داعي الله عز وجل في نفس كل مسلم) الوازع الضمير التقوى في قلبك.

وانظر إلى عظمة هذا الداعي! ولذلك كان من فوق لماذا؟ لأن نداءه علوي يتنزل على القلب، وكل ما يصدر عن العبد إنما هو انفعال لهذا القلب.

الوازع هذا هو التقوى، وقد يقرأ الإنسان آيةً من كتاب الله فلا تؤثر فيه؛ لكن إذا كان عنده وازع من ضمير استفاد بكتاب الله.

لا يستفيد بكتاب الله إلا الأخيار أصحاب القلوب الطاهرة، وكأن القلب هذا مظلة والقرآن تحتها، لا يستفيد المرء بالقرآن إلا إذا كان صاحب قلبٍ نقي.