للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان أن كل ابتلاء بعده نصر]

لو أن الملك ترك الغلام يدعو إلى الله والراهب يدعو إلى الله والجليس يدعو إلى الله هل يمكن أن يجعلوا هذه الجماهير كلها تؤمن؟ أبداً، لكن انظر إلى الله عز وجل كيف يستدرج! ولو تركهم لعلهم لا يصلون أبداً إلى هذا العدد؛ لذلك لحسن ظنك بالله قل: من المحن تأتي المنح، إذا ابتليت فاعلم أن وراء الابتلاء نصر.

عندما قامت الحرب بين البوسنة والكروات والصرب؛ قلت في خطبة من الخطب: إن هذا الذي يحصل على أرض البوسنة من فضل الله ورحمته رغم هذا المنظر المؤلم المفجع، وهذا القتل الذريع الجماعي إلا أنه منة من الله.

فجاء جماعة وقالوا: كيف تقول مثل هذا؟ أنت تفرح بقتل المسلمين! قلنا: لا يا جماعة، المسألة ليست كذلك، لكن تعالوا ندرسها دراسة بسيطة: البوسنة هذه جزء من يوغسلافيا السابقة، والتي ظل أهلها سبعين عاماً تحت الحكم الشيوعي، أي: أن الرجل الذي عمره سبعون سنة فيهم رضع الشيوعية تماماً، لم ير الإسلام ولا دعاة الإسلام؛ لأنهم قتلوهم.

إذاً تصور أن البوسنة أخذت استقلالها، وأصبحت دولة إسلامية، ونحن أحببنا أن نرسل دعاة إلى البوسنة لكي يدعوهم إلى الله، وذهبت كتائب من الدعاة إلى البوسنيين هل كانوا سيعودون بنتيجة؟ {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:١٢٠]، يقولون له: ما هذا يا أخي؟! أنت جئت لتزرع التفرقة العنصرية؟! بعضهم تزوجوا من بعض فالولاء والبراء بين النصرانية والإسلام انمحى تماماً، لا يعرفون شيئاً عن الإسلام، ولا يعرفون شيئاً عن النصرانية، حصل لهم مسخ على مدى التاريخ.

ولهذا أنت تحتاج إلى جماعة من الدعاة يسمعونهم أن هؤلاء طالما ليسوا على ملتكم فهم أعداءٌ لكم، ومع ذلك لن يقتنعوا، فالله سبحانه وتعالى اختصر لنا الطريق لكي يغزو الإسلام أوروبا.

هم صنعوا هذه المجزرة العظيمة خشية أن يغزو الإسلام أوروبا من البوسنة، وقتل في هذه المجازر معظم الذين رضعوا الشيوعية.

فمن الذي بقي؟ الأولاد الذين استيقظوا على هول المحنة، فهي التي أنقذتهم وعندما يقرأ القرآن: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كما كفروا} [النساء:٨٩] صدق الله! رآها بعينيه.

دمعت عيني عندما قرأت قصة المرأة المسلمة التي نقلتها وكالات الأنباء، ومفادها وغداً نصرانياً ابن ثلاث وعشرين سنة زنى بها، وعمرها ستون سنة فهي تبكي وتقول: أنا التي أرضعته! أنا التي أرضعته! فهذا الذي جرى على أرض البوسنة نعمة، وإن كان ظاهرها المحنة، فالجيل الموجود صار عنده ولاء وبراء، بدأ يأخذ الإسلام من منابعه.

وعندما ذهب العرب ليجاهدوا في البوسنة كانوا إذا رأوهم يقولون: هؤلاء أولاد الصحابة.

كانوا يعظمونهم غاية التعظيم، لأنهم يعتقدون أن هؤلاء هم أولاد الصحابة.

لو أن العرب ذهبوا إلى البوسنة ولم تحصل هذه المجزرة هل سيقولون: أنتم أولاد الصحابة؟! أنت إذا نظرت إلى الظاهر لا تأخذ به، واعلم أن الله تبارك وتعالى يخرج الحي من الميت، فعندما قال الجماهير: آمنا بالله رب الغلام، صدم الملك! مفاجأة ما توقعها! وقيل له: وقع والله ما كنت تحذر! حسناً: ماذا أفعل؟ حفر الأخاديد على أفواه السكك -والأخاديد: هي الحفر العظيمة- وأضرم فيها النيران، وبدأ يعرض الناس على هذه الأخاديد، فمن آمن برب الغلام قذفه فيها، نسأل الله العافية! حتى جاء دور الأم مع رضيعها، فكلما همت أن تقذف نفسها في النار ذكرت ولدها الصغير فرحمته وتقاعست فأنطقه الله فقال: يا أماه! اصبري فإنك على الحق.

وفي الرواية الأخرى ولكن سندها ضعيف: قال لها: قعي ولا تقاعسي.

(قعي): يعني احبسي نفسك ولا تتأخري، كجنة إبراهيم عليه السلام: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩].

خلاصة هذه القصة: أنك إذا بذلت نفسك لله لا يضيعك حتى في الدنيا فلم الفرار؟! وهذه من القصص الصحيحة التي قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسورة البروج كلها إنما نزلت في أصحاب الأخدود: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:٤ - ٥]، وفي قراءة أخرى ذكرها المفسرون: (النار ذاتِ الوُقُودِ)، الوُقُود: شدة الاتقاد والاشتعال: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:٨] سبحان الله! تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها إنسان يقول لآخر: يا ابن الأصول.

وهل هذه الكلمة تغضب؟ قديماً -ومازال حتى الآن- إذا أراد شخص أن يسخر من شخص ملتح، يقول له: يا سني! فيغضب، لماذا تغضب؟! هو ينسبك إلى السنة! وكشخص يقول لآخر: يا ابن الأصول! فعندما يقول لك: يا سني.

هذا شرف لك، من أنه نسبك إلى السنة.

وهذا الحجاج بن يوسف الثقفي لما حصلت الحرب بينه وبين عبد الله بن الزبير، وأنتم تعلمون أن أم عبد الله بن الزبير هي أسماء بنت أبي بكر الصديق، وكانت قد عميت، وكانت تلقب بـ ذات النطاقين، فـ الحجاج بن يوسف كان يقول له: يا ابن ذات النطاقين يعيرها فقال: عبد الله بن الزبير: تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها لو أنك تعلم لماذا سميت ذات النطاقين لعرفت عظم هذه التسمية، إنما لقبت بذلك؛ لأنها قطعت نطاقها من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت حاملاً، وكانت تصعد الجبل لتحمل الطعام والشراب إلى رسول الله وأبيها في الغار.

فلماذا تعير بها؟! فأنت إذا ابتليت في الله تبارك وتعالى فاصبر، وهذا هو أعظم الدروس المستفادة، بل هو محور الارتكاز للثبات على السنة: أن من ابتلي في الله فصبر رفعه الله عز وجل في الدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.