للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معاداة موسى عليه السلام للمجرمين]

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:١٧].

أيها الإخوة الكرام: ما أجمل الوفاء! لا يضيع الوفاء إلا لئيم، وصدق المتنبي إذ يقول: إن أنت أكرمت الكريم ملكتَه وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا لا تصلح صناعةُ خير مع لئيم: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:١٧] هذا هو الوفاء، والاعتراف بالجميل، وبالنعم: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص:١٧] إذ قبلت توبتي، وهذه أجل النعم على الإطلاق أن يقبل الله عز وجل توبة التائب، ويمحو حوبته، ويغفر ذنوبه.

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص:١٧] أقسم على نفسه، وقطع على نفسه عهداً في مقابل هذه النعمة الجسمية، وهي أنك أسقطت عني الذنب وغفرت لي، فلن أكون ظهيراً لمجرم عليك أبداً، لا أتولى الذين ظلموا من المجرمين والكافرين، وأكون على نقيضهم؛ إذ الكافر على ربه ظهير: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:٥٥].

أيها الكرام! لماذا نهادن أهل المعاصي؟! لماذا نلقي إليهم بأيدي المودة وقد عصوا ربهم تبارك وتعالى، وكانوا عليه ظهرياً؟! فلماذا إذاً نواليهم؟! أليس هذا من كفران النعم؟! هذا من كفران النعم أن توالي أهل البدع، وأن توالي أهل العصيان والظلمة.

قال عبيد الله بن الوليد سألت عطاء بن أبي رباح فقلت له: (إن أخي يأكل بقلمه يكتب ويحسب، قال: من الرأس؟ قال: خالد بن عبد الله القسري، قال: ألم تسمع قول العبد الصالح: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:١٧]) فاستعظم أنه يكتب الخراج، أي: أن هذا الرجل محافظ على بيت المال إذا خَرَجَ مالٌ، كتب: خَرَجَ مالٌ، وإذا دَخَلَ مالٌ، كتب: دَخَلَ مالٌ، الرجل هذا غلطان؟! الرجل هذا يرتكب محرماً؟! وعطاء بن أبي رباح كان عبداً أسود منَّ الله عليه بالعلم، وكم من ضعيف متضعف أعزه الله بالعلم، كانوا إذا جاءوا عبد الله بن عمر بن الخطاب الصحابي الجليل الشهير العالم العامل إذا سألوه فيسألهم عن بلدهم، فيقول لهم: (أتستفتوني وعندكم عطاء بن أبي رباح) وهذه تزكية ما بعدها تزكية لمثل هذا العبد الضعيف.

فهذا الكلام نعطيه لكل من ارتكب مظلمة في حق إنسان لإنسان، قال عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:٣٩].

يقول: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:٢٨ - ٢٩].

ويقول تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٦٧] أكثر الذين يرتكبون المظالم يقول: أنا ماذا أعمل؟ أنا عبدُ الآمر.

نقول له: أشركت بالله بهذا القول، فهلا قلتَ: أنا عبدٌ مأمورٌ، فحينئذٍ نسأل من الذي يأمرك؟ وبم أمرك؟ ويقول تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:٢٧ - ٢٨].

وهؤلاء الظلمة الذين يدخلون النار أفواجاً وأمماً: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:٣٨].

وقال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:٦٤] تصوَّر! يُعذَّبون ويَختَصمون ويسبُّ بعضهم بعضاً، ولو أنهم لا يعذبون لكفى عذاباً أن تكون مع من تكره في مكان واحد لا تستطيع مفارقته، وصدقت العرب عندما كانت تقول: (رب مملول لا يُستطاع فراقه)، أشقى الناس من اقترن بإلف لا يستطيع فراقه، مكتوب عليه.

رجل تجوز امرأةً ناشزاً، كافرةً بالنعم، جاحدةً للفضل، وعنده أولاد منها، أو عليه مائة ألف أو ثلاثون ألفاً، أو أنه إذا طلقها أخذت كل ما جمعه في حياته، فمضطر أن يعيش ذليلاً، مضطراً، يتجرع الذل ليلاً نهاراً، ضاعت بهجة حياته؛ لأنه عاجز عن الطلاق، فكيف إذا كانوا في مكان واحد ويلعن بعضهم بعضاً.

أنا أذكر أنه لم تضق علينا زنزانة قط إلا بعدما جمعوا بيننا وبين جماعة التكفير وبين الفرماوية وبين الجماعات المختلفة، عندما كنا جميعاً أصحاب عقيدةٍ واحدة، ومنهجٍ واحد، وفي مكان واحد، كنا متآلفين متحابين متآخين، وما شعرنا أبداً بالحد على الإطلاق، بدءوا يشكلون الأفراد: (١٠) تكفير، (٥) فرماوية، (٤) من الاتجاه الفلاني العلاني، وبدءوا يتناحرون ويتناقشون ويشتم بعضهم بعضاً، هنا شعرنا بالسجن والحبس: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:٦٤] يُعذبون ويسب بعضُهم بعضاً ويلعن بعضُهم بعضاً.

فمن تمام اعترافك بنعمة الله عليك أن لا تنحاز إلى من يكفر به سواءً كان كفر جحود أو كفر نعمة.

لا يحل لك أن تعطي لأهل المعاصي الود، ولا أن تستضيف أحداً منهم، ولا تبسط لهم يد المودة؛ لأن الله عز وجل سوى بين الفاعل وبين الراضي، قال عز وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:١٤٠] فهذا وعد قطعه موسى على نفسه كله وفاء: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص:١٧] بقبول توبتي؛ وغسل حوبتي؛ فلن أكون ظهيراً للمجرمين عليك.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يَجْتَبِيَنا إلى طاعته، وأن يغفرَ لنا ما فرطنا فيه، وأن يجزينا بأحسن الذي كنا نعمل.

اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.

اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.