للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العمل بالأسباب من دين الإسلام]

إن بعض المسلمين يتعبد بترك العمل، ويزعمون أن العمل من الشرك، وفيهم من يزعم أن من ذهب إلى الطبيب فهو كافر وهذه كلمة خطيرة جداً أن يكفر أحد المسلمين ما لم يقم دليل قاطع وبرهانٌ ساطع على كُفره وهل الأخذ بالأسباب كفر؟ إن هؤلاء الجهلة يكفرون النبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بالأسباب، وقال: (تداووا عباد الله، فإن الله ما جعل داءً إلا جعل له دواءً).

والنبي صلى الله عليه وسلم أليس هو سيد المتوكلين؟ أليس هو غرة في جبين المؤمنين؟ أليس هو سيد ولد آدم ولا فخر؟ فلم اختبأ في الغار لما أراد أن يهاجر؟ هل كان خائفاً من المشركين؟ إن بعض الناس من قصار النظر يزعمون أن عمر بن الخطاب كان أشجع من النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، يقول: لأن عمر خرج وقال: إني مهاجر، فمن أراد أن ييتم ولده وترمل امرأته فليتبعني خلف هذا الوادي.

فما تبعه أحد؛ لأنهم خائفون منه، فـ عمر رضي الله عنه هاجر علناً والنبي صلى الله عليه وسلم هاجر مستتراً! وأبو بكر لما رأى رجلاً ينظر أسفل الغار قال: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟).

والسبب في أن النبي عليه الصلاة والسلام اختبأ في الغار، بينما هاجر عمر رضي الله عنه علانية: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم تشريع، وفعل عمر ليس تشريعاً.

فالنبي عليه الصلاة والسلام إذاً يقول لك: اختبئ من عدوك إن خفت منه؛ لأن فعله حجة، ونحن نأخذ التشريع من أقواله وأفعاله وتقريره صلى الله عليه وسلم، وقد كان يرسل عبد الله بن أبي بكر الصديق وعامر بن فهيرة إلى المشركين ليأتوهم بالأخبار، وهذا فيه مشروعية التجسس على الأعداء والتخفي منهم، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما وصفه أنس رضي الله عنه، وورد عن علي بن أبي طالب أيضاً قال: (كنا إذا حمي الوطيس -وكانت الحرب على قدمٍ وساق، والرقاب تطير- احتمينا بالنبي صلى الله عليه وسلم)، يختبئون وراءه وذلك لشجاعته صلى الله عليه وسلم وثباته وثبات جنانه وقلبه.

فهذا ليس خوفاً؛ إنما لأن فعله عليه الصلاة والسلام تشريع.

فكيف يقول بعض الناس: إن موقف عمر أشجع، والنبي صلى الله عليه وسلم خرج من بين ظهرانيهم وهم وقوف على البيت مدججون بالسلاح، وخرج من بين ظهرانيهم ثابت القلب، رابط الجأش؟! إذاً النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بالأسباب المتاحة.

ويزعم هؤلاء الجهلة -الذين يزعمون أن التوكل شرك- أن النبي عليه الصلاة والسلام وصف السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب بأوصاف تدل على خلع الأسباب، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فماذا صنعت؟ قلت: استرقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، فقال: وما حدثكم الشعبي قلت: حدثنا عن بريدة بن حصيب الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة، فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.

ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.

فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة).

فهؤلاء الجهلة قالوا: قوله: (يسترقون) هذا ضد التوكل، ولكن هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.

إذاً: فمن استرقى أو اكتوى أو تطير فهو غير متوكل.

وهذا الحديث مفهومه بخلاف ذلك، فهو صفة لهؤلاء الناس، وليس معناه: أن من لم يفعل ذلك يكون من السبعين ألفاً، فإنهم سبعون ألفاً قدرهم الله عز وجل، ومن صفاتهم: أنهم لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أريت نساءً كاسيات عاريات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يرحن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) ففهم بعض الناس من هذا الحديث: أن المرأة إذا أرادت أن تسرح شعرها وتعمل هكذا مثل سنام الجمل، أنه لا يجوز؛ اعتماداً على هذا الحديث، وهذا خطأ، فإن هذا الحديث وصفٌ لنساءٍ لا يرحن ريح الجنة؛ لا أن من تفعل هكذا لا تجد ريح الجنة، هذا منطق مكذوب، وهذه فتوى خاطئة امرأة مؤمنة رجلت شعرها هكذا إذاً تدخل في هذا الحديث؟ لا، فهن صنف من النساء هذه صفاتهن.

وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يكون أقوامٌ -في آخر الزمان- يخضبون بالسواد، لا يجدون ريح الجنة).

فقوله: (يخضبون بالسواد) ليس معناه: أن الذي يخضب بالسواد لا يجد ريح الجنة، فالحديث واضح، أن هؤلاء أقوام كتب الله عليهم أنهم لا يجدون ريح الجنة، وهذه من صفاتهم، لا أن من وجدت فيه هذه الصفة يكون من هؤلاء الناس، وإلا فـ سعد بن أبي وقاص -وهو من العشرة المبشرين بالجنة- كان يخضب بالسواد، وعقبة بن عامر روي عنه بسند لا بأسه به عند الطبراني في الكبير أنه كان يخضب بالسواد، وكانت لحيته بيضاء، وكان رجلاً شاعراً يقول: أخضب أعلاها وتأبى أصولها فلا يقال: إن هذا لا يشم رائحة الجنة.

إذاً: هذا الحديث -حديث السبعين ألفاً الذي يدخلون الجنة بغير حساب- وإن كان بعض العلماء أخذ منه المعنى المتبادر، ولكن المعنى الذي ذكرته هو أقرب المعاني عندي لهذا الحديث: أنه صفة لهؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب.

الحاصل: أن الإسلام كره الكسل، وحض أتباعه على استثمار الأرض، وعلى الأخذ بكل جديد جيد فيها، وإلا فمعروف أن الدين لا يرتقي إلا بقبضة قوية من المال والعتاد؛ لأن الحق إذا لم يكن معه قوة يداس بالأقدام، فلا بد أن يكون للحق قوة تدفعه.

فهذا الرجل الصالح الذي ذكر اسمه في هذه السحابة يقول: (وأرد فيها ثلثه) يستثمر الأرض ويزرعها؛ لأنك لا تستطيع أن تتصدق وأنت فقير، وكلما كنت غنياً وتصدقت كان لك فضل، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ونسأل الله عز وجل أن يبارك لنا في علمنا وأن ينفعنا به، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير.