للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خوف زكريا عليه السلام]

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناءُ الجميل.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وقبل أن أتكلم عن هذه الجزئية الأخيرة: أنبه أيضاً على نموذج آخر من الخوف وقع بعض المفسرين في خطأ تأويله، وهو خوف زكريا عليه السلام، قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:٢ - ٦].

فهذا نوعٌ من الخوف، وهو خوفٌ على الديانة وليس خوفاً على المال، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن)؛ لأن هذا يضل العالمين، فخوف زكريا عليه السلام خوفٌ على الدِّين.

قال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:٦] كان زكريا عليه السلام يقوم على خدمة الهيكل، ولم يكن له عقب، فخاف إذا مات ألا يكون من نسله من يقوم على عبادة الله وخدمة الهيكل؛ لذلك تمنى على الله عز وجل أن يرزقه ولداً ليرث هذه المهنة.

: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم:٥]، لم يخف على المال؛ لأن الميت إذا مات وخلف الدنيا وراءه يستوي عنده كل شيء، احذر أن تكون متصوراً أنك إذا مت وأكل الناس حقوق الورثة أنك تشعر بذلك أو تتألم؟ لا.

لا سيما إذا علمت قوله صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) وكانت الحكمة أن أهل أي نبي لا يرثون النبي حتى لا يشغب أهل الدنيا، ويقولون: ورَّثوا الدنيا لأبنائهم فقطع الله عز وجل هذه العلاقة، وهذا يشبه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر) رجل أبوه نصراني معه ملايين: أسلم الولد ومات أبوه في الغد يحرم الله عز وجل عليه أن يرث (مِلِّيماً) من هذه التركة، حتى يكون إسلامه لله خالصاً؛ لذلك قطع العلائق بين أهل الشرك وأهل التوحيد حتى يخلص جناب التوحيد من هذه الشوائب.

فلما قال زكريا عليه السلام: {يَرِثُنِي} [مريم:٦]، والأنبياء لم يورثوا مالاً، إنما ورثوا العلم.

قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:١٣٢]، هذا الذي يورثه الأنبياء، كلمة التوحيد.

فالذي قال من أهل العلم: إن زكريا عليه السلام قصد المال، وقال: إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث)، عام يراد الخصوص هذا خطأ في التأويل؛ إنما خاف زكريا عليه السلام أن لا يقوم أحد بخدمة الهيكل.