للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخوف من الله عز وجل مكانته وثمرته]

ثم نرجع إلى ما كنا فيه: اعلم أن الخوف من الله من المقامات العلية التي لا يقدر عليها إلا أفراد الرجال؛ أما الفجرة، فلا يخافون، قال تعالى عن بعض هؤلاء الفجرة: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:٦٠]؛ لأن المفروض إذا كان الخوف واقعاً ممن يقدر على إيقاع العقوبة به فينبغي أن يخاف وإلا فهو جريء: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}، وهذا أدعى لإيقاع العقوبة بهم، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:٤٣].

يعني لو أنه عند نزول المصيبة ونزول العقوبة تضرع وتذلل وكف عن المعاصي لكان خيراً له، ويقول: أنا تبت وأنبت، ارفع عني! لا.

بل إن العقوبة تنزل وهو فاتح لصدره.

فلذلك حقت عليه العقوبة وألا يرفعها الله عنه، قال تعالى: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:٧٦] وكان ينبغي أن يستكين ويتضرع في موضع البلاء.

فالخوف من الله من المقامات العلية، وهو سببٌ لدخول الجنة، كما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (كان رجلٌ ممن كان قبلكم) وقد ورد في حديث عقبة بن عامر وأظن أيضاً في حديث ابن مسعود: (أن الرجل كان يعمل نباشاً للقبور)، تُدفن الجثة، فينبش القبر ويأخذ الكفن، ويترك الميت عارياً، (كان رجلٌ ممن كان قبلكم أسرف على نفسه -والإسراف هو الإكثار من الذنوب- فلما أدركته الوفاة جمع أولاده فقال: أي بني كيف كنت لكم؟ قالوا: كنت خير أبٍ قال -وهذا في بعض الروايات-: فلا أعطيكم شيئاً من مالي إلا إذا نفذتم وصيتي، قالوا: وما هي؟ قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم دقوني ثم ذروني في يومٍ شديد الريح، -وفي رواية قال:- اجعلوا نصفاً في البحر ونصفاً في البر، قالوا: لم يا أبانا؟ قال: إن الله لو قدر عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات ونفذوا وصيته، أمر الله عز وجل البحر أن يرد ما أخذ وأمر البر أن يرد ما أخذ، ثم قال له: كن، فاستوى بشراً، قال: عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: رب مخافتك، قال الله: أما وقد خفتني فقد غفرت لك).

مع أنه لما فعل ذلك أراد أن يعجِّز الله! وبالغ في التعجيز بأن قال: (أحرقوني ثم اسحقوني ثم دقوني ثم ذروني في يومٍ عاصف) كل هذا يظن أن الله لا يقدر على جمع جزئياته إذا تناثرت، فظن أنه يريد أن يعجز القدرة، إلا أنه في حال غلبة الخوف فقد اتزانه وتفكيره، فظن أنه بذلك يفر من ربه، فعلم الله صدق خوفه وإن كان أحمقاً في تصرفه، فلما علم صدق مخافته منه قال: (أما وقد خفتني فقد غفرت لك)