للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم التهنئة وفضل المبادرة إليها]

الثالثة قوله: (فقام إلي فصافحني وهنأني) كلمة (وهنأني) دليل على مشروعية التهنئة بما يسر المسلم، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون ذلك، ولهم في ذلك آثار معروفة ذكرها السيوطي في رسالة له لطيفة اسمها (بلوغ الأماني بوصول التهاني)، ذكر فيها الآثار التي فيها صحيح وضعيف -ولا أصل له عن الصحابة رضي الله عنهم- يوم كانوا يهنئون بعضهم في الأعياد وفي المناسبات التي تسر المسلم.

مداخلة: هل هناك صيغة معينة للتهنئة؟ الشيخ: ليس هناك صيغة معينة في التهنئة، بل ما تعارف عليه أهل البلد، إلا أن يكون هناك في الكلمة معنى غير مشروع، وفي هذه المسألة تذكرت سؤالاً وجه لبعض علمائنا في الحجاز، فقد سئل شيخنا هذا: هل يجوز أن يقول الرجل لأخيه عندما يذهب لتعزيته: البقية في حياتك؟ قال: نعم، لا أرى من ذلك مانعاً.

ويبدو أن الشيخ لم يتصور المعنى، فمعنى البقية في حياتك، ماذا؟ أي: أنه مات ناقص العمر، فالذي ذهب من عمره ينضم إلى عمرك إن شاء الله.

هذا معناها أي: هو يسأل الله تبارك وتعالى أن يضم إلى عمر هذا الإنسان ما فات من عمر الميت، وهذا معنى لا يجوز وهو مضاد لصريح الكتاب والسنة، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:٣٤].

مداخلة: هل يجوز تهنئة غير المسلم في العيد؟ الشيخ: لا، لا يجوز تهنئة غير المسلم في العيد، ولا يجوز تعزية غير المسلم في الحزن.

قال: (ولست أنساها لـ طلحة) وهذا يدل على أن القلوب جبلت على حب الإحسان، وكون كعب بن مالك يحمل هذا الجميل لـ طلحة بن عبيد الله، يدلك على أن المسارعة في التهنئة تحفر في القلب أثراً، والله تبارك وتعالى يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠] إشارة إلى أن الإحسان يأسر العبد الذي حسنت إليه، ولذلك قال من قال: (ليس هناك حِملٌ أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك)، كلام كالذهب.

(ليس هناك حملٌ أثقل من البر) فالإنسان عندما يكون فضل له عليك فأحياناً يخطئ عليك وأنت تقول: لولا أنه عمل معي كذا وكذا لكنت رددت عليه، فلذلك أنت تحفظ الجميل، فلا تستطيع أن ترد عليه؛ لأن الرجل أسرك بالجميل، وهذا شيء فطر عليه الإنسان.

ففي حديث المسور بن مخرمة الحديث الطويل في صلح الحديبية الذي أخرجه الشيخان: أن عروة بن مسعود الثقفي وكان كافراً فذهب إلى قريش وقال لهم: دعوني آت محمداً صلى الله عليه وسلم، فأعرض عليه ما تقولون، فجاء عروة بن مسعود الثقفي والصحابة حول النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا محمد! إنها واحدة من اثنتين، إما أن تغلبهم -أي: إذا دخلت في حرب بينك وبين قريش وغلبتهم- فهل سمعت رجلاً اجتاح قومه قبلك -يعني أسمعت أن أحداً فعل في قومه ذلك؟ - وإن كانت الأخرى -أي: أنهم يغلبوك- فوالله ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك).

فعندما قال هذه الكلمة: (سمع من يقول له: أنحن نفر وندعه، امصص ببظر اللات) فهذه كلمة شديدة جداً، فعاب آلهتهم أنها أنثى، ثم طعن في موضع العورة أيضاً، فقال عروة بن مسعود: (من هذا الذي يتكلم؟ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إنه ابن أبي قحافة) يعني: أبا بكر الصديق، واسمه عبد الله بن أبي قحافة، فقال له عروة بن مسعود لـ أبي بكر: (لولا أن لك عليَّ يد لأجبتك) فهذا يدل على أن كل الناس مسلمهم وكافرهم فطروا على محبة الإحسان، حتى الكلاب، كما قال الشاعر: يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها حتى الكلاب إذا رأت رجل الغنى حنَّت إليه وحركت أذنابها وإذا رأت يوماً فقيراً ماشياً نبحت عليه وكشرت أنيابها فالكلب إذا رأى المحسن إليه تراه يهز ذيله، وهذا شيء كما قلت يفطر عليه المخلوق.

(من برك فقد أوثقك) طالما أنه دائماً يحسن إليك، ولم يصلك منه إساءة (ومن جفاك فقد أطلقك)، أي: لو أن شخصاً يشتمك دائماً، فافعل فيه ما تريد، فلن يلومك أحد، لماذا؟ لأنه ليس له عليك يد.

فلذلك التهنئة في الأعياد، والتعزية في الأحزان، مهمة جداً، ولها وقع السحر في النفس، فالشخص عندما يرى أنك مسرور له أكثر منه لا ينساها لك، وحين يرى أنك حزين أكثر منه أيضاً لا ينساها لك، لذلك لما قام طلحة مسروراً وصافح كعب بن مالك قال كعب: (لست أنساها لـ طلحة).